محمد صابر عبيد
تنتشرُ الذاكرةُ على مساحات الكيان البشريّ الحيّ انتشاراً سافراً بحيث لا تترك بقعةً فيه أو زاويةً أو طيّةً أو ظلاً إلا وتسلّلتْ إليه، إذ تمتلك طاقةَ نفاذٍ خطيرةً تعلن فيها عن وجودها وحضورها وتأثيرها في الوسط الذي تنوجد فيه، وتسهم في صياغته وتؤثر في بناء قواعده وتسيّر هواءه على النحو الذي يتلاءم مع معطياتها ومقاصدها ومكوّناتها، ويستحيل على الإنسان العيش بلا ذاكرة لها منزل خاصّ في الجسد والخيال لا ينازعها عليه منازع، وحين يفقدُ الذاكرةَ يكفّ عن كونه إنساناً سويّاً بوسعه العيش بحريّة وانتظام وكأنّ ذخيرة الذاكرة ومرجعها المحتشد بماضيه البشريّ هي قاعدة الحاضر ونافذة الحلم، فحين يفقد الإنسان ذاكرته ويغادر منزلها تتصفّر معرفته وذكرياته وتاريخه ويعيش حالة هجرة قاسية بلا وِجهة ولا مصير.
منزل الذاكرة على الرغم من خصبه وكينونته الفريدة لكنّه في طبيعة تشكيله وتكوينه وحساسيّته ووظيفته لا بدّ أن يكون غير محصّن، فهو مفتوح النوافذ والأبواب والآفاق بلا سماءٍ ولا أرضٍ ولا يشترط الإقامة الدائمة، ولا يخضع للترميم حين يجور الزمن عليه ويستهلك نواحيَ أساسيّة منه، لذا يستمرّ بالتآكل وهو في زَوالٍ مستمرّ، وما يتآكل منه لا يعود لأنّه يفنى ويندثر ويصعب استعادته، فعلميّة الاستعادة بحاجة لقوى عقليّة وذهنيّة وجسديّة صافية ونشيطة وحيويّة قادرة على تنفيذ المهمة بنجاح وكفاءة ودقّة، وكلّما ضعفت هذه القدرة على الاستعادة السليمة تناقصت جذوة الذاكرة وخسر منزلها أجزاء من جوهر التكوين الأساس لها، وإذا كانت الذكريات القابعة في منزل الذاكرة يسند بعضها بعضاً لكي تدوم فإنَّ غياب البعض يسهم في يُتمِ البعض الآخر ليتركه وحيداً بلا ناصرٍ أو مُعينٍ.
منزل الذاكرة مؤقّتٌ يغادره المرء فوراً ولا يتلبّث فيه كثيراً مع كثرة زياراته له وتردّده عليه دوماً، وحين يعود إليه تكون العودة اضطراريّة وانتقائيّة لتحقيق مُعادِلٍ نفسيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ، فهو ليس بيتاً يفرض الإقامة الدائمة ويُشعِرُ بالانتماء الكليّ والمطلق بحيث يسمح بالمكوث الطويل والنهائيّ بل هو منزلٌ قليلُ الضوءِ وقليلُ الحيلةِ، وغير مؤهّل للحفاظ على ما يحتويه بأمانةٍ تتجاوز أعاصير الزمن وتياراته العاصفة التي لا تُبقي ولا تذر.
الذاكرة الشعريَّة تلتفت مباشرة إلى الجزء الشعريّ من منزل الذاكرة وتكمن داخله وتكشف عن مضمراته بهدوءٍ ورَويّةٍ، لأنّ هذا الجزء لا يُعنى عناية كبرى بالحقائق الأكيدة ويستبدل بها الاحتمالات، يهجر المعنى الأوّل الذي لا يدوم طويلاً في منزلها ويتّجه نحو المعاني الثواني والثوالث دائمة التشكّل والتمظهر والتحوّل، لذا فهو الأقرب إليها والأكثر استجابة لمعطياتها وضروراتها وقضاياها وتجلّياتها وحساسيّاتها.
الذاكرة السرديّة ذاكرة استلهاميّة تنفعل بالراهن وتمزجه بالذكريات والمشاهد لتصوغ منه سبيكة سرديّة صالحة للقول والقصّ والحكي، ويمكن لها أن تكون أمضى حراكاً وتجوّلاً في أكثر مساحات منزل الذاكرة قُرباً من عنصر الحدث الذي تعتمده أساساً تعبيريّاً لولوج طبقات أخرى تستجيب لهذا النشاط، فتستجلب منه ما تراكم من حكايات ظاهرة وضمنيّة ومستترة للإفادة منها في تشكيل الفضاء السرديّ المقترح لنصوص سرديّة مقبلة.
الذاكرة الدراميّة هي ذاكرة متحرّكة تذهب نحو جوهر الأحداث الماضية مباشرة لتلتقط منها ما يصلح للمسرحة، وتعتمد في بناء منظومتها الفنيّة على شبكة الأفعال القابلة للتراكم الفعليّ والتطوّر والنموّ الدراميّ كي تكوّن الأرضيَّة المناسبة لانطلاق النصّ الدراميّ، لكنّ الذاكرة الدراميّة على صعيد خزن اللقطات والمشاهد والتفاصيل الدراميّة أضعف من نظيرتها السرديّة وكذلك الشعريّة، فالذاكرة الدراميّة ذاكرة قريبة دوماً يربطها بالراهن الحيويّ المتحرّك الكثير من الوشائج والرؤيات والأفكار ذات الطبيعة الديناميّة القابلة للتشكيل البصريّ.
الذاكرة التشكيليّة تنمو نموّاً صوريّاً وتملأ منزل الذاكرة بالصور المقبلة من منطقة الأسود والأبيض نحو منطقة الألوان، وتستلهم كلّ ما تختزنه من آليّات عمل وتفاصيل وإمكانات جماليّة صالحة لفعاليّة التصوير التشكيليّ، وهي تتحصّن في مناطق معيّنة من الذاكرة لا بدَّ من الاستدلال عليها بدقّة كي يمكن الإفادة من معطياتها في العمل التشكيليّ، وهي ذاكرة تقوم في مركز جوهريّ من مراكزها على التأمّل الذي سرعان ما يعود إلى فضاء الماضي (البعيد والقريب) معاً، نحو استلهام ما هو صالح لبناء اللوحة ودعمها بما تيسّر من كِسَرٍ وأجزاء وقِطَعٍ متناثرة في طبقات الذاكرة هنا وهناك لتشييد (الرسم) القادر على تمثيل فكر التشكيل.
فعل التذكّر فعلٌ نشيطٌ جداً أكثر من أيّ فعلٍ آخر من الأفعال البشريّة المعروفة والمتداولة، لأنّه فعلٌ حرّ لا يستلزم الكثير من الإعدادات ويعمل داخل فضاء سريّ غير مكشوف لا يحتاج إلى جرأة وإقدام وتفكير بالآخر، إنَّه سياحة في منزل ذاتيّ شديد الخصوصيّة والعتمة والسريّة بوسع المرء فيه العودة إلى كلّ ما يشاء من الذكريات المقدّسة والمدنّسة، لا موانع ولا حدود ولا فواصل ولا محرّمات ولا شيء البتة؛ لذا فالمرور منها وإليها أسهل كثيراً من حركة الأفعال الأخرى وأيسر تدفقاً وتفاعلاً.
إذا كان للذاكرة حالات وأنواع وتشكيلات مختلفة فإنّ الذاكرة الحسيّة هي الأظهر وتشتغل بوصفها الذاكرة المهيمنة على المنزل وتتقدّم إلى طبقتها السطحيّة بقوّة ونفاذ وإثارة، وهي الأقرب لأيدي الفنّ كي تصنع منها نصوصاً ولوحات جماليّة بحُكمِ قُربها من السطوح الجسديّة للأشياء واستعدادها للعمل والإنجاز.
تكمن الذاكرة القصيرة بعدها في منطقة ظاهرة من مناطق المنزل ولا تتوغّل عميقاً في قبوه حتى تكون في مأمن من التشتّت والضياع والتلاشي، وهي تديم حضورها على مقربة من أزمنة الأحداث وأمكنتها وحساسيّتها لتكون جاهزة للاستدعاء والمثول بين أصابع التشكيل.
في حين تمتدّ الذاكرة الطويلة على طول المساحة الزمنيّة والمكانيّة للمنزل وتحتلّ الجزء الأعظم منه، وهي عبارة عن سلسلة متلازمة من الذكريات تتفاعل فيما بينها لأجل تركيز ما هو ملائم وصالح للتخزين منها، وكلّما فقدتْ هذه السلسلة حلقات معيّنة منها سرعان ما تتصلُ بقيةُ الحلقات حتى تواصل مسيرتها بلا عوائق تُذكر، فهي العمود الفقريّ الذي يحفظ قوام الذاكرة وما تتوزّع على أطراف قامته من ذكريات وخبرات وأسرار.
فعاليّة التذكّر هي الصفحة التي تشتغل الذاكرة فيها على ما يصطلح عليه (العمليات المعرفيّة التذكّرية) التي يتمّ فيها التعرّف القصديّ على الذكريات المطلوب تحديدها ومن ثمّ استرجاعها، أيّ توظيف الخبرات السابقة على الصعيدين الواقعيّ والتخييليّ لاستعادة ما يرغب العقل الراهن في استعادته على هيئة مُخرجات لفظيّة، أو حركيّة، أو بصريّة، في سبيله نحو تكوين نصوص لا يمكن استكمال صورتها النهائية من دون الاعتماد على ذخيرة
الذاكرة.