الصناعة الرقميَّة وحياة النص

ثقافة 2024/08/21
...

عادل الصويري

العلاقة بين اللغة والمجاز، مثل العلاقة بين الطبيعة والحضارة، فاللغة تجعل النص محافظاً على البراءة والنقاء، بينما يمكن للمجاز حال التطرف في استخدامه وصناعته أو اصطناعه، أن يكون فاعلاً في تدمير براءة النص وروحه.
كيف يحدث هذا؟ يحدث لأنَّ ذات الكاتب استسلمت بشكل كامل لنعاس الخضرة المتسرب بهدوء في جسد الكتابة، وسلّمت أمرها للصناعة المريبة التي زادت من مساحات التصحر “الحضاري” الملتمع ببريق زائف.
والهيمنة المجازية ستفضح النص بلا شك، وعندها ليس بوسع النص  إدارة حوار منتج، بين كاتبه ومتلقيه، إذ سرعان ما يكتشف القارئ، أنَّ صاحب النص فلّاحٌ جمع كل ثروته الزراعية من شجر ونخل وعشب؛ ليذهب بها إلى بهرجة العواصم وأضوائها، حيث الصناعة والاصطناع في أعلى المراحل، وهناك يدخل في حتمية عدم العودة إلى الطبيعة/ اللغة، فيرتضي واقعه الجديد، بوصفه فلّاحاً صناعيّاً يمارس رثاءً بارداً لانكساراته التي يرممها بكاريزما مجازية مجانية، بعد أن تكون نزعته الاستكشافية الجمالية قد وُئِدت، ولم يعد بمقدوره الاحتجاج على وجود الكتل الإسمنتية الثقيلة الجاثمة على صدر اللغة.
*الانشطار الرقمي
ومن الواقعيِّ الإشارة إلى أنَّ استسلام النصوص للصناعة؛ جاء بعوامل انشطار مفاهيمي كبير ومريب حد الذعر، بسط هيمنته الفعلية على الحياة بشكل يقترب من الكُلّيِّ، بفعل الرقمية المستبيحة، التي صارت عالماً مستقلاً بذاته، بعد أن شطبت تقريباً العالم الواقعي، وصارت لها تحولاتها، بحيث صار الافتراضي محدِّداً لكل المسارات الحياتية، فهو صانعُ رأي عام، وَمُوَجِّهُ ذوق، ومعالجُ أمراض، ومزيلُ تجاعيد.
ومن دون هذه الرقمنة المتسارعة؛ تتوقف الحياة، وتنطفئ الرغبات، وبات الحل الوحيد بالنسبة لكثيرين، ومنهم كُتّاب النصوص، هو التماهي معها، وتشجيعها في مضمار السباق، والاندكاك بتفاصيلها، والخضوع لاشتراطاتها، بينما يكون ثمن ذلك كلّه العزلة والانقطاع عن العالم، والبقاء في شرنقة الذات المتوحدة.
ولأنَّ بعضَ أحلامِ المثقفين والأدباء تتمحور حول اللحاق بالتقدم وعجلته، فقد رأى بعضهم أنَّ هذا اللحاق لن يتمَّ ما لم يحوِّلْ مشغلَهُ الابداعي واللغوي إلى مصنعٍ متماهٍ مع الواقع الرقمي، مع توابل يظنُّها تحافظ على براءة النص الحياتيِّ، ولا تخدش نكهته، فهو مدركٌ رغم كل هذه الصناعة، أنَّ النص الحياتيِّ ليس من السهل تجاوزه؛ لذلك يعمد إلى بعض التحديثات؛ علَّه يجد التوازن.
هذا الفعل التحديثي، جعل النصوص هجينةً، لا هي تنتمي إلى الجذور الحقيقية الأولى، ولا ماؤها بوسعه اقتراح ينابيع جديدة مقنعة للجريان اللغوي، فما كان من النص إلاّ الإعلان عن هويته الصناعية الجديدة بوصفه برتوكول قلق، يحاول التشبث بالمنطق الملتبس والقائل: “للمتلقي دور في كتابة النص” والحقيقة أنَّ المتلقّي لا علاقة له بكل ما يجري، سوى التفرّج على هذه الآلية الصناعية، مع استحالة اقتناعه بذريعة التفاعل أو التفاعلية، فهو في غمرة صداعه سيسأل: تفاعل من مع من؟.
إنَّ ولوج الكتابة العالم الرقمي، صاحبته تحولات كثيرة، جعلت النصوص المصنوعة تعيش استلاباً حقيقيّاً، بعد أن تقهقرت سلطة اللغة، وحلّت محلَّها سلطة الشاشة، تماماً مثل العالم الواقعي الذي تقهقر أيضاً، على مستوى العمل والحب، فصارت العشوائية سيدة الموقف.
ومفردة (سيدة) في العبارة الأخيرة، يمكن أن تحيلنا إلى عالم الكتابة الأنثوية، وهو العالم الأكثر استفادة من العالم الرقمي، حيث استثمرت (حواء) هذا العالم؛ لصناعة سلطتها التي ستقوّض مركزية الفحولة وأنساقها. لكنَّ هذه السلطة في الحقيقة تسبح في الفراغ، حتى لو ادَّعت كسرها المعايير الحياتية المألوفة، وانحيازها لقضايا المرأة ووجودها، وإنزالها الضد (الرجل) من عرشه الواقعي، وتحويله إلى افتراضي، من دون أن تعلم أن هذا التحول هو تحول مصنوع غير بريء، على مستوى فنّية الكتابة. ربما تكون القصدية نبيلة وإنسانية؛ لكنَّ الفن في هذه القصدية سيشكو من تشوهات كثيرة لا يمكن إغفال صناعتها الحضارية المؤقتة، التي سرعان ما تتلاشى، قبل أن يكتشف متبنّوها أنَّها تطور آلي لا روح ولا حياةَ فيه لمفهوم النخبوية المعزولة، التي تختنق في لغة الهواء الطلق، وفضاءاتها النقية البريئة.