في معنى الليبراليَّة وعصرها

آراء 2024/08/21
...

 أ.د. عامر حسن فياض

 إذا كان عصر الليبراليَّة هو ماضي غيرنا الغربي فهل هو حاضرنا الشرقي؟ سؤال يحتاج إلى إجابة... والإجابة العاقلة تقتضي تحديد معنى الليبراليَّة، وتفحص الخصائص السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعصرها.
إن الليبراليَّة كغيرها الكثير من المفاهيم التي يحيطها الغموض بسبب تعدد معانيها وتباينها بل وتنافرها أحيانا، فإن هذا الغموض ليس عذراً للنكوص عن محاولة تحديد مفهومها، الذي نعثر فيه اكثر من اتجاه. الاتجاه الاول: ويرى في الليبراليَّة منظوراً عقلياً فردياً ينطلق من الفرد، ليعزز مكانته على حساب الجماعة، ويقوم هذا المنظور على مبدأ أساس يتمثل بحرية الفرد في الميادين كلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية.
الاتجاه الثاني: ويرى في الليبراليَّة نظاماً فكرياً متجانساً، ينطلق من الفرد، ليؤكد استقلاله في إطار الكون الذي يعيش فيه، ويجعل منه مبدأ ووسيلة لازمين لازدهاره بالحرية الفردية، لتكون الليبراليَّة بذلك منهجاً للتنظيم الاجتماعي والاستعمال اليومي للحرية لتعزيز مكانة الفرد استناداً إلى فهم الشخص الإنساني، بوصفه كائناً أخلاقياً واجتماعياً في الوقت نفسه.
وإذ تنطلق الليبراليَّة من مبدأ حرية الإنسان، فإنها تؤكد حقوقه الطبيعية، وضرورة حرصه على استقلاله تجاه المجتمع والدولة، التي لا تتجاوز مهمتها حدود حماية وصيانة هذه الحقوق، لتكون الليبراليَّة نقيضاً لتدخل الدولة في الحياة الإنسانية. ويُعرف هذا الاتجاه الليبراليَّة بأنها فكرة ونظام وسلوك يضفون الطابع العقلي على استقلال الفرد، لحمايته من السلطات، لا سيما الدينية والسياسية، وتبعاً لذلك تؤكد الليبراليَّة حقوق الفرد قبل واجباته، وتربط وجود المؤسسات كلها بالرضا الحر للفرد.
الاتجاه الثالث: ويرى في الليبراليَّة منظوراً مجتمعيا عاما، ينطلق من تأسيس وجود المجتمع وحركته على اقتصاد السوق/ النظام الرأسمالي المتميز بالمنافسة الحرة اقتصادياً، وتولي الطبقة الوسطى للسلطة اجتماعياً، والديمقراطية سياسيا، وحرية التفكير والتعبير ثقافياً، والإيمان بالفرد والفردية أخلاقياً، والاختيار الديني الحر واستقلال الدين عن السياسة وعدم تدخل المؤسسة الدينية في الحياة اليومية للناس، بما فيها الحياة السياسية دينياً، والإيمان بمبدأ القوميات دولياً.
واستخلاصاً مما تقدم يمكن القول إن الليبراليَّة تمثل نظاماً فكرياً واجتماعياً واقتصادياً، يقوم على الحرية كمبدأ وغاية للنشاط الإنساني الفردي والتنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، يستهدف تحرير الفرد وتخليصه من كل أشكال الهيمنة الاجتماعية والسياسية والدينية، وضمان حقوقه وحرياته وزيادة فرصه وتحسين قدراته. بهذا المعنى يغطي عصر الليبراليَّة حقبة زمنية محددة، تختلف الآراء حول تحديد بدايتها، إذ يذهب أحد الآراء إلى تحديدها بظهور وثيقة (الميثاق الأعظم = الماكنا كارتا = الميثاق العظيم = الشرعة الكبرى) الذي اصدره الملك جون في بريطانيا في القرن الثالث عشر (1215م)، ويذهب رأي آخر إلى تحديدها بظهور كتاب جون لوك الموسوم بـ (مقالتين حول السلطة المدنية 1690م) أواخر القرن السابع عشر ويذهب رأي ثالث إلى تحديدها بظهور (مجتمع الوفرة) في القرن التاسع عشر (1800 – 1900م)، ويعكس هذا الاختلاف على تحديد بداية العصر الليبرالي، ويعبر عن أمرين:
- الأمر الأول: الاختلاف السابق حول تحديد مضمون الليبراليَّة.
- الأمر الثاني: الخلط بين عوامل أو أسباب ظهور الليبراليَّة، والمبادئ التي تقوم عليها الليبراليَّة. حيث إن مبادئ الليبراليَّة ذات جذور مغرقة في القدم، ربما تمتد إلى القرن الثالث عشر (1200م) عندما احتضنتها وثيقة (الماكنا كارتا) في انجلترا، ولكن قِدم تلك المبادئ لا يبرر إرجاع بداية العصر الليبرالي إلى ذلك التأريخ، لأن العوامل أو الأسباب الاجتماعية - الاقتصادية التي أدت إلى نشأة الليبراليَّة لم تكن متوافرة آنذاك. لقد ارتبط التأكيد على مبدأ الحرية الإنسانية الليبرالي تاريخياً، بمعارضة تبني الدولة في المجتمعات الغربية مبدأ التدخل في الحياة الإنسانية، وكان أكبر مظاهر هذه المعارضة هو احتجاجات مجلس العموم البريطاني على سياسة الاحتكار التي بدأت تمارسها الدولة في عصر الملكة إليزابيث الأولى (1558 – 1603م)، ولكن حتى هذه المعارضة وعلى الرغم من تعبيرها عن مبدأ ليبرالي، ليست كافية لأن تعد بداية للعصر الليبرالي.
وإذا كانت المتابعة التأريخية – الاجتماعية تبين تفاوت البداية الزمنية للعصر الليبرالي من بلد أوروبي إلى آخر بفعل تفاوت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري في كل بلد منها، فإن ذلك لا يمنع من ملاحظة تميز هذا العصر على العموم ببعض الخصائص:
ففي الخصائص الاقتصادية: حيث تميز العصر الليبرالي بالاعتماد على المبادرة الفردية التي تحركها المصلحة الخاصة كأساس للنشاط الاقتصادي.
وفي الخصائص الاجتماعية : تميز العصر الليبرالي بطبيعة اجتماعية متناقضة، حيث احتفظت فيه القوى الاجتماعية القديمة، كالنبلاء ورجال الدين بمواقع بارزة داخل النظام الاجتماعي - السياسي في اطار تراتب اجتماعي شديد التعقيد، لكنها فقدت في الوقت نفسه دورها وتأثيرها السياسيين بقدر ما احتفظت ببعض الامتيازات السياسية السابقة.
وفي الخصائص السياسية: حيث تميز العصر الليبرالي بضعف وتناقض تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، ومنح الأفراد حق ممارسة النشاطات الاقتصادية في حدود مصالحهم الخاصة. وبذلك تخلت الدولة الموروثة من عصر النهضة عن دور الحاكم القاضي، الذي مارسته طيلة ذلك العصر. وفي الخصائص الثقافية: تميز العصر الليبرالي بظهور تيارات فكرية متعددة ومتنوعة، بتعدد وتنوع القوى الاجتماعية، بفعل ضعف وتراجع الهيمنة الثقافية للثقافة الدينية الكنسية.
مما تقدم هل أن خصائص عصرنا هي خصائص عصر الليبراليَّة؟.