الجماعة الشعائريَّة

آراء 2024/08/21
...

جواد علي كسار

مهما قيل عن نهاية الأيديولوجيات في المجتمعات الإنسانية فلا ريب أن للإسلام دوره الذي لم يزل مستمرّاً في إيجاد الأنساق الجماعية على مختلف سلّم العلاقات الاجتماعية، كالأسرة والقرابة والجماعات الثقافية والجماعات الشعائرية التي يهمّنا الحديث عنها الآن.
الجماعات الشعائرية متعدّدة الأنساق في الوجود الاجتماعي العام للمسلمين، منها مثلاً جماعة الصلاة، وجماعة الحج، وجماعات الزائرين ولا سيّما جماعة زائري الإمام سيد الشهداء، إذ تلوح في أفق الواقع هذه الأيام، واحدة من أكبر المواسم الشعائرية الجماعية ليس في العراق وحده، بل في نطاق الجغرافية الإسلامية برمتها، أقصد بها زيارة الأربعين، وهي تنفرد بجماعة تمتدّ على قاعدة مليونية، غالباً ما تفوق جماعة الحج بل حتى جماعات المصلين، كما تشهد على ذلك مواسمها في مدينة كربلاء.
يضعنا مفهوم الجماعة الشعائرية ومصطلح الزائرين تحديداً، أمام واقع يثير العديد من الأسئلة، عن مفهوم هذه الجماعة في الارتكاز العقدي، والقواعد الشرعية الضابطة لسلوك الزائرين، والأهداف المتوخاة من هذه الجماعة، وهل هي أهداف تعبدية فردية محضة أم تمتدّ إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ليكون لها من ثمّ جدوى بالمعنى العمراني الجامع للجماعة نفسها ولبلدنا، يُخرجها من نقدِ من يرى فيها خسارة اقتصادية واستنزاف لموارد البلد وبناه التحتية، بل وعامل ضرر للأمن القومي العراقي، وهي تشهد الانبساط الذي هي عليه الآن فعلاً، حين تكون خصوصيتها العراقية ظلاً لغير العراقيين؟
لمواجهة هذه الإثارات وما سواها لا بدّ من أن ننتبه إلى أن للجماعة الشعائرية في زيارة الإمام سيد الشهداء، مرتكزاً عقدياً عميقاً، تعضده مئات النصوص التي تؤكد أهمية زيارة الحسين، وتفصّل في كيفيتها وأوقاتها ومواصفاتها، وصفات الزائرين وآداب الزيارة، ونصوصها وجميع ما يستتبع ذلك، ما يجعلنا بمواجهة مؤسّسة راكزة الأركان وليس ظاهرة عابرة، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الخلفية التأريخية للزيارة من خلال تخطيط أئمة أهل البيت وإشرافهم
عليها.
لا ريب أن هذا الوجود العريق المتأصل يجعل جماعة الزائرين، ممارسة منضبطة بآداب وأعراف وخصائص إسلامية عامة، بالإضافة إلى القواعد الشرعية والفقهية الضابطة لسلوك هذه الجماعة وممارساتها.
عند هذه النقطة تفترق الجماعة الشعائرية الحسينية وتجمعاتها الكبيرة وحشودها الشعبية المنبسطة، عن بقية الجماعات والحشود الشعبية، مثل التجمعات الرياضية والاحتجاجية والثقافية والسياسية وهكذا. وهذا الافتراق ليس كيفي أو مزاجي، بل يمتدّ إلى تلك الأسس العقدية والشرعية التي تؤطر هذه الجماعة، وتميّزها عن غيرها.
فإذا ما عدنا إلى أبرز مدوّنة تنظيرية للحشود الجماهيرية، أقصد بها كتاب «سايكولوجية الجماهير» لغوستاف لوبون، نجد أن مواصفات هذه المدوّنة للحشود تضعنا على تخوم حدود فاصلة بينها وبين الجمهور الحسيني. فخصائص الفرد عندما يدخل عالم الجماهير في مدوّنة لوبون يضحى مغفّلاً منوّماً غير واعٍ بأعماله، مقود من اللاوعي، جانحاً إلى التقلب والانفعال والهمجية، أقرب ما يكون إلى النزق والسذاجة وفقدان خاصية العقل، والانزلاق إلى الهلوسات الجماعية.
من المؤكد أن النسق العقدي الشرعي الذي تقوم عليه الممارسة الشعائرية الحسينية وفي طليعتها جماعة الزائرين، ترفض المواصفات أعلاه الواردة في مدوّنة لوبون وغيرها، وإذا ما شهدنا جنوحاً في ممارسة الجمهور الحسيني وشعائره، فلا بدّ من العودة إلى الأصل.
السؤال الخطير: هل يعني هذا الاختلاف الجذري بين الجمهور الحسيني وبقية الحشود والتكتلات، عصمة للجمهور الحسيني وجماعة الزائرين، وأنها محصّنة ذاتياً ضدّ أي اعوجاج وانحراف؟ كلا، فكما أن المسلم يقع في المعاصي رغم إسلامه، وكما يُصاب المصلي والصائم بالذنوب وارتكاب المحرمات حدّ السرقة والقتل وما سواهما؛ كذلك يمكن أن يُقارف العضو في الجماعة الشعائرية أي معصية من المعاصي، ما يجعل المعيار ليس الانتماء إلى الجماعة الشعائرية، بل الاستقامة السلوكية والعدالة، والانضباط في نطاق المحدّدات الشرعية، ما يعني أن نطاق النقد والتقويم للجماعة الشعائرية مفتوحاً إلى أقصى المديات، في نطاق النصيحة وما وراء ذلك موازين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.