وأد المساحات الخضراء

آراء 2024/08/21
...

سوسن الجزراوي

تتعرض المدن بين فترة وأخرى إلى هجوم مناخي تقوده ((جيوش من الرمال))  مدججة بأسلحة ترابية هوجاء، فتؤدي إلى خلق متاعب صحية، تنفسية، إضافة إلى عشوائية في الشوارع مخلفة أكداسا من الأكياس والعلب الفارغة والازبال المنتشرة هنا وهناك، بعيداً عن الحاويات الصحية التي تحتويها. كل هذا بسبب انعدام وقلة المساحات الخضراء في هذه المدن ((المنحوسة))، التي ابتليت بمسؤولين لا يعرفون معنى (الحزام الاخضر) !
وفي جولة عامة في العواصم العربية، كونها الأقرب من ناحية المناخ والارث الحضاري وسلوكيات الشعوب إلى حد ما، نجد أن الغالبية منها تحتفظ بمساحات شاسعة من النباتات الخضراء والحدائق، التي صممت ضمن مخططات انشاء المدن، وكانت في معزل عن عمليات الاغتيال البيئي، الذي يحدث بين الآونة والأخرى بحجة اقامة مجمعات سكنية أو مراكز تجارية، وغير ذلك من مشاريع استثمارية لا فائدة منها إلا للمقاول المستثمر صاحب رأس المال، والوسيط الذي سعى بلهفة لإرساء العطاءات لهذا أو لذاك، اما المواطن، فحدث ولا حرج، فهو متفرج دائم وعضو بارز في مدرجات المشاهدة ((الصامتة))!
وتعد المساحات الخضراء، رئة كبيرة لجسد المدينة الذي يعاني من التلوث اليومي والاختناقات الجوية من جهة وعوادم المركبات والمولدات، بل وحتى تلوث الضجيج وزحام البشر وانفاسهم من جهة أخرى. علاوة على هذا، فهي بلا شك تعمل على خلق توازن صحي بين الملوثات وبين النقاء والافادة الناتجة من وجود مساحة التشجير هنا وهناك، ناهيك عن فائدتها على الصعيد الاجتماعي، إذ إنها تتيح للمجاميع البشرية، الاختلاط وايجاد فرص للتآلف السكاني حتى ولو بأبسط صوره. من هنا تأت خطورة اهمال هذه المساحات المهمة، كونها الجانب الاهم في الحفاظ على البيئة وصحة الانسان في ذات الوقت، فمن الممكن ان يتم الاستغناء عن المراكز التجارية القريبة الواقعة في قلب المدن، على الرغم من اهميتها، لكن لا يمكن الاستغناء عن المساحات الخضراء واستبدالها بمشروع سكني استثماري مهما كانت الضرورة، ويعد متنزه (الزوراء)، واحدا من هذه المساحات غاية في الاهمية، اذ يقابله مجاميع سكنية عمرانية كبيرة، كان لها الاثر البالغ في زيادة الاكتظاظ السكاني وخلق نوع من الزحامات المرورية التي لا تكفيها كل مجسرات الدنيا !
لذلك وامام ما تقدم، نرى أن الأرض المزروعة بالأشجار والنباتات والورود بأنواعها، هي في الحقيقة، أرض صالحة  لإقامة الحياة المدنية عليها، ولا يمكن تحت اي ظرف من الظروف، ان يصار إلى تقطيعها وتحويلها إلى ابنية استثمارية للسكن، الغاية منها، الربح المادي حسب، بل على العكس تماماً، فمع تصاعد موجة البناء العمودي الذي يفتقر للمساحات الخضراء الضرورية، يأتي وجود مساحة مزروعة كضرورة ملحة جدا جدا، لانها تعمل كما اسلفت، على خلق ذاك النوع من التوازن البيئي المهم بشكل غير خاضع للنقاش. ويرى بيل ماكيين في كتابه (نهاية الطبيعة)، أن الناس لا يمكنهم ان يدركوا ويفهموا معنى الطبيعة، الا اذا انغمسوا فيها وتعايشوا معها. فوصف الامر لا يشبه رؤيته ولمسه والاحساس به بشكل واقعي، فادرك أنك تتنقل بين نموذج من الطبيعة مهما كانت مساحته، يمنحك القدرة الكبيرة على استنشاق هواء أكثر نقاوة أولا، ويساعدك على ادراك مكامن الجمال، التي تمنحها ايانا تلك الالوان التي تميز الشجرة الخضراء والوردة الحمراء، وغير ذلك من انواع النباتات الطبيعية المحيطة بنا. والقيمة الجمالية لتلك الاراضي المفتوحة الخضراء أمر حتمي يساعد الناس على الاستمتاع بمشاهدة الطبيعة بشكل مصغر، خاصة اذا ما كانوا محرومين من مشاهدتها بشكلها ونطاقها الواسع، اضافة إلى انها تساعد على استبدال حيادية وبلادة اللون الرمادي إلى الوان اخرى كما ذكرت سابقاً، تعد الاجمل والاقرب للروح والنفس الانسانية.