ريسان الخزعلي
(1)
نخلة الله، المجموعة الشعرية الأولى للشاعر حسب الشيخ جعفر أشارت - رغم بعض الملامح السيّابيّة - بوضوح إلى شعريّة لها من الفرادة الفنيّة المتميّزة في الشعريّة العراقية والعربية على مستوى اللغة والشكل والبناء والتّشكيل الصوري والطواف بين البراءة الريفيّة الأولى ودهشة المدينة "هناك"..، تلك المدينة التي أيقظت عصباً حسيّاً جديداً في مُدركات الشاعر، عصباً أرجفتهُ: الموسيقى، المرأة - آلهة الخُطى المتثاقلة، الحانة، السينما، الفندق، السهر، العاصفة الثلجية.
نخلة الله، تلك، قد عَلت سعفاتها تباعاً، وتفرّعت باستطالاتٍ تماوجت مع الريح - ريح الزمن الشعري: الطائر الخشبي، زيارة السيدة السومرية، خلف الحائط في المرآة، في مثل حنوّ الزوبعة، أعمدة سمرقند، كران البور، الفراشة والعكّاز، رباعيات العزلة الطيبة، وجيء بالنبيين والشهداء، أنا أقرأ البرق احتطاباً، تواطؤاً مع الزرقة.
في أعماله الثلاثة التي تلت "نخلة الله" كانت تجربة القصيدة المُدوّرة بلغتها الطيّعة، ورموزها الفنيّة والتاريخيّة والأسطورية، هي العلامة التي أشارت إلى النوع، ودلّت على الفرادة بصوتٍ عالٍ. أما في الأعمال الأخرى، فقد مالت الرياح واصطدم العصب الشعري بالحجر. ولم تعُد "لينا" تلك الصبيّة إلّا خيط دخان في "رماد الدرويش". لقد هدأت الزوبعة.
(2)
آخر الطريق، مجموعته التي صدرت بعد رحيله، ضمّت قصائده التي كتبها في عزلته وأطياف مرضه واحتجابه عن الظهور. ما هي إلّا قصائد استرجاعات وتذكّرات وتأملات ويوميّات في/ عن الماضي وتعارضات الحاضر. قصائد تفعيلة قصيرة الشكل، ورباعيات.
إنها العودة إلى تجارب البداية. والتعليل كامن في ذات الشاعر، فلا خطوة في شارع، ولا نديم في "الحانة الدائرية" ولا "قارّة سابعة" ولا "زيارة لسيّدة سومرية"، ولا "خفق حذاء" ولا مرور إلى "فاتنة
الإذاعة".
لقد حضرت أطياف: الوالدين، ومُنكر ونكير - الإحساس بالدنو من اليقين، والأصدقاء - الشعراء وسواهم، والكثير من ظلال الذاكرة المنشطرة بين حدّين- القرية والمدينة الثلجيّة. وتلك هي فعْلة العزلة، إذ كلُّ شيء أصبح "عبر الحائط" لا "في المرآة": "مَن تُرى جاء بكَ، الليلة، ياسعدي إليّا/ طارقاً شُبّاكي الخافت آنا/ وفؤادي الساهر المُتعب آنا/ باحثاً عن دفء أعشاش لديّا؟"
في "آخر الطريق" يمكن توصيف التجربة، بأنَّ "الطائر الخشبي" قد حط َّ في الأرض البوار متحسّراً: "أنا لا أقول: هوَ الجنون/ أو لمحُ طيفٍ من جنون/ لا شيء إلّا وشوشة/ في الليل تملأُ لي المسامع كلّما جئتُ الوساد/ وكأنني ما زلتُ أسمعُ في الظلام/ جوق الضفادع، وهو يملأُ بالنقيق/ بستاننا، ويُمزّقُ الصمت العميق/ وقصصتُ هذا مازحاً، يوماً، على شيخٍ صديق
فإذا بهِ يرنو إليَّ مُحاذراً/ وكأنني سأعضّهُ/ بل واختفى عنّي اختفاء الملح في العَرَق الزلال".
ومن شدّة العزلة، يحضر "الخيّام" في مناجياته الرباعيّة، إذا لم يجد في نصْحهِ ما يُزيل الغبار أو يُبدّل صفرة الغروب: "مالي أُحدّقُ في الفضاء فلا أرى/ إلّا اغبراراً أو غروباً أصفرا/ خيّام ما كنتَ النصيح، فلم أجد/ فيما نصحتَ سوى أحابيل
الكرى".
ومن تداعياته عن رنين الكؤوس، تلك الكؤوس التي كانت تأتيه بالنشوة النؤاسية الأزليّة، ما عاد يراها إلّا حطاما وخراباً: "أنا كنتُ أشربُها، وأشربُها/ ولم تَكُن الطلا إلّا رؤىً وسرابا/ ولقد أفَقْتُ عن الكؤوس، ولم تَعُد/ إلّا حُطاماً مهملاً وخرابا".
ومن تتبع الرباعيتين، نجد تزاحم تكرار الصياغات في بناء البيت الشعري، وكأنَّ الشاعر قد أدركه الملل واليأس، فمال إلى النفي وتأكيد هذا النفي: فلا أرى، إلّا اغبراراً، فلم أجد سوى، ولم تكن، إلّا رؤى، ولم تَعُد، إلّا حُطاماً. لقد غابت صياغات الشاعر اللغوية الآسرة.
آخر الطريق، آخر تجارب حسب الشيخ جعفر الشعريّة. إنّها تجربة العزلة التي ما كانت طيّبة، وقد كانت آخر سعفات "نخلة الله".