نيتشه: لا تحدّق طويلاً في الهاوية

ثقافة 2024/08/22
...

 كمال عبد الرحمن

فريدريك نيتشه فيلسوفٌ ومفكرٌ وأديبٌ ألمانيٌّ ولد عام 1844، تنقلَ بين عدة دول وشارك في الحرب الفرنسيَّة الألمانيَّة وجرح فيها. عانى من العزلة وأصيب بالجنون إلى أنْ توفي في 25 أغسطس/ آب 1900، وعمره حينئذ 56 عاماً، وقيل إنَّه توفي بسبب التهابٍ رئوي مصحوبٍ بسكتة قلبيَّة، وقيل إنَّه مات بسبب الشلل جراء إصابته بمرض الزهري، وخلف إرثاً فلسفياً وفكرياً غزيراً اختلف بشأنه النقاد والمؤرخون. ونحن هنا سنتحدث عن "نيتشه سايكولوجياً"، ونوضح أنه من الصعب دراسة شخصيَّة "نيتشه" من الناحية النفسيَّة
فهو رجلٌ سبق عقله زمانه، وقال سقراط "الويل لمن سبق عقله زمانه!"، وبما عُرِفَ عن شخصيات الفلاسفة من تعقيدٍ وانعزاليَّة وغموضٍ وغير ذلك ممَّا شكلها متوحدة مع نفسها والتي ترى نفسها نسيج نفسها فقط، كنخبةٍ تغرد خارج السرب، وما الى ذلك من تسمياتٍ يتَّصِفون بها أو يَصِفون أنفسهم بها. فقد كانت شخصيَّة "نيتشه" لا تقل تعقيداً وغرابة وعزلة عن سواها من الشخصيات الفلسفيَّة، وبما أنَّ لكلّ فيلسوفٍ حياته الخاصة وظروفه التي تؤثر في هذه الحياة وتشكل ملامحها، فإنَّ نفسيَّة نيتشه قد تشكلت تحت تأثير عدة عوامل أهمها، الأسرة: إذ لم يحظ "نيتشه" بأسرة مثاليَّة أو طبيعيَّة مثل بقيَّة الناس، وعانى من مسألة "الفقد" حيث فقد بوقتٍ مبكرٍ من حياته أباه وأخاه "ففي العام 1849 وقبل أنْ يتمَّ نيتشه الخامسة من عمره توفي والده إثر نزيفٍ بالمخ، وبعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ توفي شقيقه الرضيع بشكلٍ مفاجئ، وظلَّ هو الذكر الوحيد في أسرته، وعام 1850 انتقلت الأسرة للعيش في ناومبورغ على نهر سالي، وقضى نيتشه معظمَ طفولته في منزلٍ يتكون من أمه فرانزيكسا، وأخته الصغرى إلزابيث، وجدته وعمتيه". وقد عانى نيتشه من مشكلة كبيرة في حياته اسمها "أسرة النساء" حيث لا يوجد رجلٌ واحدٌ في أسرته يستمعُ إليه ويصاحبه ويشعر بآلامه، فبدأ الحزن يدبُّ في نفسه تدريجياً، وكثيراً ما كان يذكر أمام أسرته من النساء حزنه وحسرته على فقده الأب والأخ اللذين كانا يملآن فراغه الروحي، بينما هو يعيشُ الآن وحيداً في أسرة كلها نساء فقط، لا يجتمعن إلا على الثرثرة والمشكلات، وكان هذا يؤثر بعمق في نفسه ويجعله يهربُ من البيت في أحيانٍ كثيرة.

كان نيتشه محاطاً بالنساء في حياته، أغلبهنَّ من الصديقات والمعجبات، وكان يعتقد في وقتٍ ما يمكن أنْ يكون "دون جوان" عصره، لكنْ في الحقيقة لم ترض أيَّة امرأة من النساء اللواتي يحطن به أنْ تتزوجه، وفي العام 1882 عندما كان في إحدى زياراته لروما، قابل لوفون سالومي، وهي فتاة روسيَّة في الـ21 من عمرها، كانت تدرس اللاهوت والفلسفة في زيورخ، وكانت تتتلمذ على يده، وسرعان ما وقع في حبّها، لكنَّ هذه العلاقة لم تدم "فقد هجرت لوفون سالومي نيتشه ورحلت مع باباول ريه الصديق الذي كان قد رافق نيتشه في سورينتو خلال خريف 1876" وانتقلا إلى برلين، بعد أنْ رفضت أنْ تكون بينها وبين نيتشه علاقة رومانسيَّة، وقيل إنها رفضت الزواج بنيتشه بسبب مؤامرات أمه وشقيقته، ويقال إنَّ هذه الفتاة هي من قادته إلى الجنون"، ومن هنا اشتهر نيتشه بعداوته وكرهه للنساء، فكان يقول إنَّ "حب المرأة ينطوي على تعسفٍ وعمى البصيرة عن كل ما لا تحبه.. المرأة كائنٌ غير قادرٍ على الصداقة: فهي لا تزال كالقطط، أو الطيور، أو الأبقار على أفضل الأحوال". وقال إنَّ "المرأة نصف البشريَّة الضعيف، المضطرب، المُتقلِّب، المتلوّن.. إنها بحاجة إلى ديانة للضعف تقدس الضعفاء، والمحبين، والمتواضعين، أو لعلَّها تحول القوي إلى ضعيفٍ - وتنتصرُ عندما تنجحُ في التغلب على القوي.. لقد تآمرت المرأة دومًا مع جميع صور الانحلال ضد الرجال الأقوياء"، وواضحٌ هنا أنَّ نيتشه يقصدُ "سالومي" فهو يصفها بالمتقلبة الخائنة التي غدرت به وتزوجت بصديقه. وقال عبارته الشهيرة "أنت ذاهبٌ الى المرأة إذن لا تنس خذ السوط معك". هذه بعض أقواله التي تخصُّ المرأة وتتعلق في بعض صداقاته وعلاقاته مع النساء وخصوصاً "الحسناء الروسيَّة لو أندرياس سالومي". 

كما رفضت سيدة تدعى "ماتيلدا" أيضاً الزواج به بسبب آرائه المتطرفة عن المرأة، وكان هو يضربُ الأمثلة على ضعف المرأة وعدم قدرتها على فهم الفيلسوف، ومن ثم ترفض الزواج به، فهذا يراه مُتأتياً من قلة وعيها وهزال شخصيتها، ثم يكيل للنساء ألوان الشتائم والتحقير والتصغير، ويعود بعد ذلك ليقف الى جانبها ويدعي الدفاع عنها، وهذا ما خلق ازدواجيَّة في أفكاره هذه، وجعل النساء ينفرن منه ومن قبول الزواج به. 

كانت عزلة نيتشه كبيرة وذات تأثير عميق ومؤثر في نفسه، فبعد فقد الأب والأخ أصيب بكآبة شديدة، وأراد أنْ يخففَ هذه الكآبة عن طريق تتويج صداقة "سالومي" بالزواج، لكنها صدمته وحطمت نفسيته حينما رفضت الزواج منه ثم تزوجت نكاية به بأعز أصدقائه وسافرت معه، كما أنَّ نيتشه لم يعد لديه أسرة من الرجال ولا أصدقاء يصغون الى كلامه وآلامه وأفكاره وشكواه، وكثيراً ما سمعته أخته وهو يرددُ مع نفسه بحسرةٍ وحزنٍ كبيرين: "أريد أنْ أتكلمَ مع أحد.. أريد أنْ يكلمني ويصغي لي أحد.. أريد أحداً يكلمني" ولكنَّ العزلة وانصراف الناس عنه كانت سبباً في سقوطه بين براثن الألم، ثم تكالبت عليه الأمراض حتى أصيب بالشلل ثم بمرض جنون الشلل الذي أدى الى وفاته.

أقوال نيتشه عديدة ومتناقضة ومتنافرة، فيها المنطقي، وفيها الذي فيه نظر، وفيها الحاقد، وفيها المقبول، وفيها المجنون وأقوالٌ أخرى كثيرة نسبت الى نيتشه ما زالت مثار النقاش والتعجب والجدل حتى يومنا هذا.

قال نيتشه "أنْ أحيا كما أريد أو لا أحيا إطلاقاً"، و"لا تحدق طويلاً في الهاوية حتى لا تلتفت إليك".