الأربعينيَّة.. أكبرُ تجمعٍ دينيٍ بهويَّة إنسانيَّة

منصة 2024/08/22
...

لم تعد زيارة الإمام الحسين «ع» تخصُّ طائفة.. نعم، كانت تخصُّ طائفة يوم شعر الطاغية أنَّ الزيارة الأربعينيَّة صارت خطراً عليه، أما الآن فإنَّها أصبحت تخصُّ كلَّ الطوائف والأديان والأقوام، وصارت أربعينيته أشبه بمؤتمرٍ إنساني عالمي للتلاقي الفكري والتواصل المعرفي والتلاحم الاجتماعي بين المسلمين من مختلف دول العالم، تسود ملاينها مشاعر المحبة والإخاء والإنسانيَّة، ويوحّدهم شعور نبيل وعظيم: إدراكهم أنَّ هدف ثورة الحسين هو تحرير الإنسان من الظلم والطغيان، وأنْ يعيشَ بكرامة في نظامٍ قائمٍ على العدالة الاجتماعيَّة. وبالرغم من أنَّ درجة الحرارة في (آب 2024) تجاوزت الخمسين، وسجلت خمس محافطات جنوبيَّة درجة حرارة هي الأعلى في العالم، إلا أنَّ الزائرين توجهوا مشياً الى

كربلاء.

ومن جميل ما حصل، أنَّ زيارة الأربعين وفرت الآن فرصة استثنائيَّة لاكتساب ثقافاتٍ وأفكارٍ جديدة من مجتمعات أخرى لديها ثقافاتٌ أخرى، وأنَّ الأجواء السايكولوجيَّة للمناسبة أشاعت بين المشاركين روحَ التفاهم والتسامح والتعايش السلمي ونبذ الكراهية والطائفيَّة والتعامل مع الناس

بالتساوي.

وما يدهشك أنَّ ثورات عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسيَّة، بينما ثورة الحسين تتجدد وتبقى خالدة رغم أنه مضى عليها أكثر من ألف عام، والسبب هو أنَّ موت الضمائر وتهرؤ الأخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين: حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوب على أمرها، فتغدو القضيَّة صراعاً أزلياً لا يحدُّها زمانٌ ولا مكان، ولا صنف من الحكّام أو الشعوب. ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفاً متفرداً لقضيَّة إنسانيَّة عالميَّة مطلقة، ما دامت هنالك سلطة فيها: حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، وحق وباطل، ما يعني أنَّ زيارة الأربعين تكتنز قيماً ومبادئ اجتماعيَّة ودينيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة ينبغي أنْ يوليها الإعلام العراقي اهتمامه بالتركيز عليها وتغليبها على الانفعالات المبالغ بها بضرب الزنجيل وتلطيخ الرأس والوجه بالطين، التي أدانها الشيخ أحمد الوائلي وخاطب الشباب أنْ (تأدبوا بآداب الحسين، تخلقوا بأخلاقه) ودعاهم الى أنْ يحملوا فكرَ الحسين «عليه السلام.

وقضيَّة أخرى لم ينتبه لها كثيرون، إنَّ ثورة الإمام الحسين تنفرد بتعدد النظريات التي تفسر أسبابها، والشائع منها تمنحها هويَّة سياسيَّة أو إسلاميَّة، بينما الهويَّة الحقيقيَّة لها أنَّها ثورة أخلاقيَّة، فلو كانت سياسيَّة فإنَّ هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة بينما الحسين «ع» كان يعرف أنَّه مقتولٌ، ولو كانت إسلاميَّة لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير إسلاميين ومفكرون

عالميون.

ودرسٌ آخر نتعلمه يتعلق بـ (المبدأ)، فقد كان بإمكان الحسين أنْ ينجو وأهله وأصحابه بمجرد أنْ ينطقَ كلمة واحدة: (البيعة)، لكنَّه كان صاحب مبدأ: (خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي) والإصلاح مسألة أخلاقيَّة، ولأنه وجد أنَّ الحق ضاع: (ألا ترون أنَّ الحقَّ لا يُعمل به)، ولأنَّ الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة، وكلها مسائل تحتاج لإصلاحٍ أخلاقي، ولهذا كان عليه أنْ يختارَ بين أنْ يوقظَ الضمائر ويحيي الأخلاق، أو أنْ يميتها ويبقى حياً، فاختار الموتَ، 

وتقصّدَ أنْ يكون بتلك التراجيديا الفجائعيَّة ليكون المشهد قضيَّة إنسانيَّة أزلية بين خصمين: سلطان جائر، وجموع مغلوب على أمرها، ورسالة واضحة المعالم الى كل الطغاة للكف عن أساليبهم في انتهاك حقوق الأمة، وأخرى للفقراء والمظلومين والمستلبين، أنَّ لا يأس مع من يقتدي بقيم الحسين، ويدرك أنَّ هدف ثورته هو تحرير الإنسان من الظلم والطغيان وأنْ يعيشَ بكرامة في نظامٍ قائمٍ على العدالة الاجتماعيَّة، ويتباهى أنَّ الأربعينيَّة صارت الآن أكبر تظاهرة دينيَّة بهويَّة إنسانيَّة كربلائيَّة عراقيَّة.