ياسين طه حافظ
بدء هذا الكلام أمنية أن نكون قادرين على سماع ما لا نرضاه بهدوء. وأنه رأي نراه خطأ ويراه صاحبه صواباً، بل عين العقل. في تحقق هذه الأمنية ما ينفع الجميع. أول ما ينفع أنه سيتيح للأفكار المختلفة ووجهات النظر أن تكون أولاً مسموعة وثانياً غير ضارة أو سيئة العواقب. ثم ما الذي يضيرنا إذا استمعنا إلى رأي لا يعجبنا؟ نحن نرى في الحياة الكثير مما لا يعجبنا وتآلفنا معه كبعض حياتنا.
أو ليست الآراء والأفكار دلائل ثقافات أنتجتها، ونحن نعلم أن ثقافات الناس أصناف ومستويات، أو في الأقل هي مختلفة وغير متشابهة ما دام لكل مستوى ثقافته ونوعها والظرف المؤثر في التعبير عن الاثنين؟
حسناً ما دمنا كسرنا الحِّدة أو المفاجأة، كما نأمل، لنأت إلى مسائل "يومية" في حياتنا الثقافية. سأتحدث اليوم عن اثنتين منها وأرجئ الباقيات لوقت آخر أو لغيري. عموماً هي مسائل ستأتي تباعاً.
أولى المسألتين إننا نتحدث عن المرأة وكأنها أما مخلوق هلامي يستجيب شكله وطبيعته لتصوراتنا، وأما إنها كائن خرافي، أو غير طبيعي تماماً! كائن ليس ارضياً تماماً. وإذا لم تكن في تصورنا هكذا، فهي مما نمتلكه من زرع وضرع وربما سِلَعٍ- أو مخلوقات رقيقة، تميل إنسانيتنا، ساعة عطف أو رقيّ، أو إشفاق، لمداراتها أو التلذذ بتمسيدها، أو استطراف ما يبدو منها: فلا نظر واقعيا لها ولا تفكير بإنسانيتها الرديف المماثل لإنسانيتنا. وما نسمع من "تنظير" و"تعاطف" و"توصيف"، هو من هذا الباب، من هذه التصورات، التي صنعتها، وأتمت خرافيتها وتكررها، ثقافات مختلفة المستويات، أحياناً خليط ثقافات! فلا هي حديثة كما لعصرنا ولا نريد أن تظل قديمة ولا تتخلى عما لحقها من تصورات غير حقيقية، غير علمية وغير سليمة. ذلك كله لإنسان يشاركك وجودك، يماثلك، ومعاً تصنعان الحياة. هم يتحدثون وكأن عن مخلوق آخر يحارون في تصنيفه. لا أقول شيئاً، ولكن أقول: قليلاً من الخجل!
المسألة الثانية، التي تفرضها عليّ الاوساط أو التجمعات الثقافية.. هي هل صحيح أن الابداع تصنعه معونات الدولة وصدقات أو "لطف" اصحاب الثروات والوجهاء، أو بلغة عصرنا، تصنعه المؤسسات أو الاحزاب من انصارها أو اتباعها أو المقربين بصورة ما، لها؟
أبدأ! الأدباء العراقيون كانوا أدباء وكانوا مثقفين قبل أن تتلقفهم المؤسسات والأحزاب ودوائر الدولة. وكمحصلة أخيرة هذه المؤسسات رسمية أو شعبية هي التي استفادت منهم، وأكثر مما هم افادوا منها.
هذا الكلام أقوله لأصل بالحديث إلى معونات الدولة أو "رعاية" المبدعين!
تربية ورعاية المبدعين ليست، كما يراد لها، تربية دواجن. المبدع أديباً أو فنانا أو صحفياً، يبدع عادة ما يباع. ما يجد له راغبين فيه. أما أن ينتج كتاباً لا يُقْرأ، فهذه دلالة أما على هبوط مستوى الكاتب أو هبوط مستوى المجتمع. وهذه، قد تكون من أول أسباب عدم أو قلة المبيع مما ينشر ويُعرض. فله قليل جداً من الناس يعنيهم أمرها، يرون حاجة لها. هم في شأن والكتابات والفنون في شأن.
ثم لا توجد دولة من الدول، التي أطلعنا على حيوية أوساطها الثقافية توزع "صدقات" أو "مساعدات" لمثقفيها. هذا إقرار بفقرهم وعوزهم المادي، وهي قضية شعب لا قضية أدباء وفنانين. الدخل الشهري للفرد ضئيل ودون مستوى القبول. والدعوة يجب أن ترتفع لمستوى مشرّف، أن نحمل وهجاً ثورياً، لتحسين الظروف المادية للشعب. دائماً ما تصحب الفقر المادي أنواع شتى من أنواع الفقر، ومنها الفقر الاخلاقي والوطني!
ذلك ما هو مفترض أن يكون ألا يكون معوزين فقراء في بلد واضح الغنى، وما هو معروف في العالم، أن الأدباء والفنانين يعملون، هذا صحافة وذلك يحرر في دار نشر وثالث يراجع كتبا صادرة وآخر في مؤسسة بحوث، ورابع مقرر لجنة أو يحاضر في جامعة وآخر يترجم. لا عاطلين تقدم لهم الدولة مساعدات. لكن فقر البلاد من المؤسسات الكبيرة وقلة فرص العمل، و"كثرة" المتأدبين والميل إلى الكتابات السهلة غير المهمة والبطالة وكثرة الكلام.. يضاعف الفقر..
لا يضيرني أن تمنح الدولة عوناً لأحد، ولكنه مدخل للإسقاط، لإضعاف القيمة، وللشراء. وما دام الأديب أو الفنان أو المثقف العادي فقيراً معوزاً، فشراؤه سهل! هذه حقيقة مؤسفة، الاستسلام لدور البائس الذي ينتظر المساعدة، أو الصدقة، مسألة مخجلة في أقل تقدير ومؤسفة حتى أن تكون "منحة"، منحة على ماذا؟ كلمة منحة هنا تغطية مؤَدّبة لكلمة مساعدة. ولكن لماذا مساعدة؟ لأن هناك فقراً! ولماذا هناك فقر والبلاد في ثراء وبذخ؟ الجواب لأن هناك حاجة وطنية للاهتمام بالمجتمع يرفع مستوى المعيشة، وكفى من هذه الخزعبلات، الشعب مدقع منذ أكثر من قرن!