النظام السياسي العراقي بين عقليتي القرية والمدينة

آراء 2019/06/17
...

د. عبد الواحد مشعل
 
 بدايةً يمكن طرح التساؤل التالي: هل ثنائية البداوة والحضارة هي نفسها أو قريبة منها ظاهرة القبيلة والدولة في المجتمع العراقي اليوم؟ للإجابة عن ذلك يتطلب الأمر تحليلا علميا للمشهد العراقي اليوم بامتداداته الحضارية خلال التاريخ وهو يصعب تحقيقه بشكل متكامل في هذا المقال المحدود. إلا أن ذلك لا يمنع من وضع الخطوط الرئيسة لهذا التحليل، من اجل تحقيق ذلك لابد من الإشارة الى بعض مفاهيم القبيلة والدولة، فما يتعلق بمفهوم القبيلة ينبغي التعرض إليه انثروبولوجيا على اعتبار أن القبيلة كيان أجتماعي واقتصادي قائم بذاته وقادر على الدفاع عن نفسه وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأبنائه حيث الملكية القائمة فيه ملكية جماعية، كما انه يتميز بالتنقل والترحال في كثير من الأحيان. ويقوم على سلطة سياسية يديرها شيخ في القبيلة ومجلسها من دون أن يظهر في تمايز طبقي واضح المعالم، حيث يكون شيخ القبيلة مندمجا مع الجماعة وهو جزء لا يتجزأ منها يأكل أكل افرادها ويلبس مثل لباسهم ويتميز بالتواضع، فهو المختار من قبلهم بنسبه وحكمته وكرمه وشجاعته
، إلا ان هذا المفهوم لم يعد ينطبق كثيرا على النظم القبلية أو العشائرية المعاصرة، إذ تحولت الكثير من القبائل المرتحلة الى قبائل أو عشائر زراعية مستقرة وما رافق ذلك من تحول في شكل السلطة والملكية وظهور تمايز اجتماعي، فضلا عن ظهور مظاهر دكتاتورية حينما أصبح الشيخ إقطاعيا يمتلك أراضي واسعة، كما أن النظام القبلي ذاته أصابه الكثير من التحلل القرابي وفقد ميزة التماسك والانصياع التام لأوامر الشيخ، وأصبح الولاء تحركه المصالح مدفوعا بعلاقات قرابية شكلية، نتيجة تغيرات ثقافية حصلت في محيط القبيلة أو العشيرة وهي تحتك يوميا بالمدينة
، باعتبار الأخيرة أصبحت سوقا لترويج منتجات الريف الزراعية والحيوانية ومصدرا لتسوق الريفيين أنفسهم، كما أن ظهور الدولة ككيان سياسي واقتصادي وقانوني جعل شيخ القبيلة يسعى للارتباط بها لتحقيق مصالح آنية ،وقد اثر ذلك في ولاءات وتوجهات أبناء القبيلة والعشيرة ذاتهم لتحقيق مصالح معينة لدى السلطة. إلا أن ذلك لا ينطبق على كثير على القبائل أو العشائر التي صنفت في حقب ماضية بأنها معادية للسلطة بل أن القبيلة ذاتها صنفت عشائرها من هي موالية للسلطة و أخرى معادية
لها. 
أما مفهوم الدولة كما أورده أستاذ علم الاجتماع محمد علي محمد في كتابه (أصول الاجتماع السياسي) على انه وحسب المفهوم الخلدوني يرتبط بمفهوم العصبية ربطا عضويا، كما أن مفهومها هذا يختلف باختلاف الزاوية التي ينظر منها، أي الى الفئة الحاكمة ورجالاتها والعلاقات السائدة بينهم من جهة ومن العصبيات الخاضعة لهم من جهة ثانية، ومن اجل فهم أعمق لذلك، فالدولة من وجهة نظر ابن خلدون تعني الامتداد المكان والزماني لحكم عصبية ما، وبهذا المعنى يمكن تصنيف أفكار ابن خلدون الى قسمين أولهما يتناول الدولة بالمكان إي نفوذها واتساع رقعتها الجغرافية، وثانيهما يتناول استمرارها في الزمان أي مختلف المراحل التي يجتازها حكم العصبية الحاكمة من يوم تسلمها السلطة الى يوم خروجها من 
يدها.  
كما بين الدكتور محمد علي محمد مفهوم الدولة في الفكر السياسي الغربي الذي يرى أن مفهومها كان متلازما لتطور مفهوم المجتمع المدني بوصفه نظاما للسوق ولتبادل السلع بين إفراد مكتفين ومستقلين ويتصرفون بطريقة عقلانية، ويرى  تأمل خبرة الدولة المطلقة التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر والصراعات المحلية لسلطة هذه الدول والصراع المتتابع بين الدولة والكنيسة والصراع بين الدولة والشعب أدى الى بلورة كتابات مهمة في الفكر الغربي، فضلا عن دراسة طبيعة الدولة منذ مكيافيللي الى هيجل، بين مفهوم الدولة الدال على أنها القوة المستقلة والعلمانية،  أي أنها لا تقوم على أساس أحادي سواء ديني أو قبلي أو قومي أنما تقوم على أساس التعددية. التي تتفاعل داخلها كل المسميات أنفة الذكر، ولعل هذا الرأي لأحد علماء الاجتماع أنما هو يتفق تماما مع تحليل علم الاجتماع لجدلية القبيلة والدولة في المجتمعات المتحولة أو المتغيرة وهو لم يعد موجودا في المجتمعات الغربية التي قامت في تاريخها المعاصر على الصناعة و ما أحدثته من تغيرات بنيوية كبيرة في عقلية الإنسان الغربي، وبهذا المعنى فان بناء الدولة في الشرق الأوروبي  ( المعسكر الاشتراكي) قام على أساس الأيدلوجية ، أما في المجتمعات التقليدية ومنها مجتمعنا فان بناء الدولة لا نفصل على تأثير البنى التقليدية ،ولعل هذا يمثل جوهر الإشكالية التي تعانيه الدولة العراقية الحديثة، وهو ما يفسر أهمية العلاقة الجدلية بين القبلة والدولة ما يستلزم إجراء دراسات معمقة في هذا الجانب ،لاسيما مع تنامي تأثير متغير جديد وهو وسائل الاتصال التي تعمل على تفكيك نظام القبيلة، وتضع أمام الأجيال الجديدة مفاهيم لا تزال غير واضحة، لاسيما مع تنامي الصراعات المحلية التي تتنافى أصلا مع مفهوم المواطنة والدولة الحديثة ، إذن نحن إمام جدلية جديدة وهي بناء الدولة وثقافة شبابية جديدة تنمو سريعا.