حاتم حسين
جذب انتباه زميلهُ الطبيب الذي كان يقف إلى جانبه.
أحسَّ بذعره، واصطكاك أسنانه همس له: ما بكَ؟ هل تعرفها؟ بسريّة تامة أومأ برأسه أنّها شقيقته المفقودة.
قال الضابط الذي يرتدي الزي الزيتوني بلهجة صلبة وآمرة: لا نريد أن تعالجوهنَّ، نحن بانتظار شهادة الوفيات، ثم تطلّع في وجه الطبيبين وغادر المكان هو وجماعته.
هذه المفاجأة هزّت أوصاله بعنف، حاول أن يتماسك كي يصرف نظر الرقيبين اللذين كانا يسجلان كلّ حركة صغيرة وكبيرة عن الأطباء.
المشفى خاص بأولئك الذين يأتي بهم رجال الأمن إلى هذه الردهة الخاصة والشديدة الحراسة والمليئة بالأعين الرقيبة.
كُنَّ ثلاث فتيات طالبات في الجامعة لم يقترفنَ ذنبًا سوى أنّهنّ "محجبات".
ألقى زميله الطبيب نظرة فاحصة على الفتيات واستكشف أعراضًا مشتركة بينهنّ؟
بقع صلعاء في مقدمة الرأس وسقوط الأهداب والحواجب، مرض لم تره عيناهما..
استفسرا من الشقيقة الملقاة والممددة على السرير.
كانت خائرة القوى متيبّسة الشفتين لا تستطيع أن تتحرك أو تتحدث بصوتٍ عالٍ أو مسموع.
قالت: لقد سقونا قدحًا من اللبن قبل يومين ثمَّ إنهارت قِوانا.
طفق الاثنان يبحثان في بطون الكتب الطبيَّة عن المرض الذي يُسبّب مثل هذه الأعراض، ووقعت عيناهما على تلك المادة الكيمياويَّة التي يضيع طعمها مع اللبن، هذه المادة التي تُدمّر وتخرّب الأنسجة والخلايا والتي اسمها "الخردل" تنهش وتأكل أعضاء الجسم وتنكشف بوضوح على منابت الشعر وخاصة مقدمة الرأس والأهداب والحواجب.
تكلّم معه الطبيب بصوت منخفض: نحن نتناوب الخفارة، وعلينا أن نسرع بعملية "غسل المعدة وتبديل الدم" نحاول إيقاف تدهور صحتها.
الرعب هو المناخ السائد في هذه الردهة المغلقة والمعزولة.
عقد لسانَه الصمتُ بعد هذا الاقتراح الجريء. حاول أن يبثّ في نفسه قدرًا من الشجاعة والقوة: كن شجاعًا، نحن أطباء، وهذه فرصة لا تعوّض.
لاح لعينيه شبح الرقيبين اللذين كانا يجلسان على الباب، وقف حائرًا مذهولًا وهو يبادلها النظر كشخصين غريبين، نظراتهما تخفي في طياتها أسئلة عن أحوال الأبِّ والأم والبيت والأصدقاء، لا يشغلها سوى الاطمئنان أو الرغبة في التحدث عن أولئك الذين غادرتهم رغم حبّها وشغفها لهم، خاطب نفسه "هذا إذن ثمن الوعي والنضج والثقافة والانخراط في العمل السياسي"، فهي لم تكن سياسيَّة بالمعنى الخاص، ولكنّها إنسانة أرادت أن تتلمّس حياتها ومستقبلها على نحوٍ من الحريَّة؟ الحرية التي تبيح لك انتقاد أولئك الذين قادوا البلد نحو الهلاك والدمار والتخلّف، حرية طوّحت بها إلى هذا المصير المعتم.
داهمه هذيان غريب لفَّ تفكيره، فهو لا يلوي على شيء سوى أن يقف خائفًا مرتجفًا من هول الشجاعة التي أقدم عليها زميله الطبيب. كان يجري عملية غسل المعدة من دون خوف أو تردّد،
صرخ بوجهه أن يتقدّم لكي يُعاونه، فالعمليَّة برمتها بحاجة إلى أكثر من شخص، لكنّه ظلّ صامتًا ساكتًا مرتعد الجوارح صاحَ به: لم أكن أعتقد أنَّك جبان الى هذه الدرجة؟
- إنّها أختك، وشرفك؟
شعرت بعمق الإهانة التي يوجهها إليه.
ضغطت برفق على كفِّه كي يكفَّ عن إيذاء مشاعره.
انغلق على نفسه تمامًا منحدرًا من عالم الخوف الذي لا يزاوله إلى عالم الجنون، الجنون الذي يجعلك أكثر انطلاقًا وحرية، وهو يراها وجهًا لوجه من دون أن يتمكّن من احتضانها أو إنقاذها ونقلها إلى عالم أكثر دفئًا وأمانًا..
أحضان أمّها التي قتلها الشوق والانتظار من أنَّها ستعود مع صديقاتها.
انحنى على يدها يقبّلها، كانت الدموع تنبعث من عينيه بلا توقّف، لكنَّها الآن باردة كالثلج تحدّق في الأفق البعيد.. أفق ليس فيه قيد أو ألم أو متابعة