شعريَّة اليومي والمهمل

ثقافة 2024/08/27
...

 د. سمير الخليل

يتمركز الخطاب القصصي في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم، الصادرة عن دار السرد للطباعة والنشر- بغداد، 2024 حول تقنية المفارقة للاشتباك مع الواقع وتناقضاته وظواهره وتأزماته واقتران روح المفارقة، بتجسيد المواقف والأحداث التي تعبّر عن اليومي والمهمل، وتسليط الضوء المجهري على وقائع تفاصيلية صغيرة لم ينتبه إليها إلاّ عقل يستبطن بؤس الواقع، من خلال هذه التفاصيل التي تمتلك القدرة على التأثير والكشف عن مكابدة الشخصيات وصراعها السايكولوجي الداخلي، وهي تبحث عن كينونتها، وأحلامها وثباتها، ومحاولة التناغم مع الواقع من خلال استماتة الذات وقوّة مقاومتها، وقد أضفى هذا التوّجه البعد السايكولوجي في المعالجة القصصيّة، وأصبحت الشخصيّات تحت سطوة هذا الميل، وكشف العقد والتوّترات الداخلية وتحولت القصص إلى نوع من البوح أو (المونولوج) الداخلي الصاخب، ليتم تقديم مشهديّة بانوراميّة عميقة للصراع بين الذات ودواخلها وموّجهاتها من جهة وبينها وبين الواقع والآخر من جهة أخرى.
اتسّمت القصص بأنها نماذج وصور وبؤر تأطرّت بفن البحث عن التفاصيل والبؤر التي تبدو أنها عابرة لكنّها تكشف عن تأثير وقوّة في تشكيل الأحداث الكبيرة والمعقدّة والمركّبة، وتكشف عن تأثير مماثل في خلق الشخصيّات والتعبير عن ثنائية القوّة والضعف في داخلها وقدرتها على التصدّي ومحاولة فرض الذات وما ينتج عن ذلك من تناقض ومفارقة تكشف عن طبيعة المجتمع، وأزماته وطبيعة الشخصيّة ذات النسق الفرداني الذي يتحدّى النسق الآخر، نسق العقل الجمعي، وطبيعة التأسيسات السيوسيولوجية المتمثلة بالعادات والقيم والمسارات المتداولة، وسنن القيم الكميّة بوصفها مهيمناً مركزيّاً سائداً. إنّ الشخصيّات تعبر عن بطولة (المهمّش) ضد المركزي، والفرداني ضد الاجتماعي والتمرّد ضد السائد، وتتحوّل الشخصيّات إلى شخصيّات وجودية قلقة، ترتكز على نوع من المقاومة، وفضح الواقع من خلال التعمّق وكشف تفاصيله من اليومي والمهمل والمسكوت عنه، ما يؤدي إلى خلق صور للمفارقة بكلّ تنوعاتها وأبعادها، والتمركز حول المفارقة هي دالّة على وجود التناقض بين الذات والآخر، والذات والموضوع، ما ينعكس على الذات نفسها، ويؤدي إلى الصراع السايكولوجي والوجودي الحاد، وتصبح نتائج ودلالات الأفعال أو المواقف الصغيرة تساوي في ثقلها وعمقها الأحداث الفاصلة والانعطافية، وهذه هي مأثرة هذا النوع من القصص الاستبطانيّة والشفيفة وهي تحيل في طبيعتها إلى النمط (التشيخوفي) أو (الغوغولي) في التعمق بمواقف مهمشة وعابرة، لكنّها تبدو أحداثاً تراجيديّة كبيرة مثل مشكلة (المعطف) أو (العطاس) أو تفاصيل عابرة وصغيرة لكنّها تؤدي إلى نتائج مربكة وكبيرة وحادّة، ولذا يعرّف كثير من النقاد المفارقة بأنّها صيغة بلاغيّة تعبّر عن القصد باستخدام كلمات تحمل المعنى المضاد، ويعبّر عنها بأنّها مفارقة التناقض وصراع الأضداد ومفارقة التعارض أو الازدواج، ممّا ينتج أجواء تمزج بين الكوميديا والتراجيديا ويتحوّل الخطاب السردي إلى خطاب (باردوي) لمتابعة الخلل الذي يؤدي إلى الانتباه والكشف، وبذلك فهي تمثّل بؤرة للتوازن بين الجدل والهزل، وبين التصور والمألوف، والساكن والمتحرّك والحقيقة والزيف والقوّة والضعف والسلب والإيجاب والمتوّقع وغير المتوّقع، وعلى وفق هذه المعطيات قدّمت القاصة صوراً ونماذج شفيفة لالتقاط المفارقات والتناقضات، عبر نزعة للكشف والتحريض، وإثارة الوعي بالمعطى السردي وحمله على المعطى الفكري.  يعبّر عنوان المجموعة وهو عنوان لإحدى القصص عن محاولة الشخصيّات لتجميل الذات بغية تجميل الواقع، وخلق التناغم بين الذات والواقع مما يؤشر على وجود ثنائية القبح والجمال المعبرّة عن وجود التناقض أساساً بوصفه المحرّك للصراع الفردي والجمعي بشكل عام ودال، وتتسع دلالة المعنى التأويلي لمفردة (التاتو) لتعبّر عن آلية أو رغبة لصناعة الموقف للتخلّص من التناقض بين الذات والمجتمع وفكّ اشتباك التأزّم الداخلي والخارجي، وبعض
(التاتو) قد يصمد أو يصلح التأزم أو يكون مجرّد محاولة هشة وعابرة، وذلك تبعاً لقوّة وطبيعة التناقض ومؤثراته.