الاكتئاب والقلق في المدونات البابليّة

ثقافة 2024/08/28
...

إدوارد ه.رينولدز و جيمس ف. كينير ويلسون

ترجمة: مظفر لامي

في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، قمنا بلفت الانتباه للأوصاف والفهم والمعالجات التي كانت سائدة في بابل  للاضطرابات العصبية والنفسية. و أظهرنا في أبحاثنا قدرة البابليين الملحوظة على وصف العديد من الاضطرابات والسلوكيات الطبية التي نشهدها في زمننا الحاضر، فضلًا عن وضع تفسيراتهم وعلاجاتهم الخاصة لها، رغم عدم فهمهم للدماغ أو الوظيفة النفسية. وقد بدأنا بالاضطرابات العصبية للصرع والسكتة الدماغية، وما يسمى بشلل بيل. وناقشنا مؤخراً الاضطرابات النفسية التي تشمل الذهان الصرعي واضطراب الوسواس القهري والرهاب والسلوك السايكوباتي، ونوجه انتباهنا الآن للاكتئاب والقلق في بابل.
حكمت بابل إمبراطوريتان، الأولى بدأت مع مؤسسها الملك حامورابي حوالي عام 1792 ق.م، أي في النصف الأول من الألفية الثانية ق.م. والثانية ترتبط بنبوخذ نصر ( 604 – 562 ) وهي تمتد من عام 626 إلى 539 ق.م. ورغم شهرة الحقبة الثانية، إلا أننا وجدنا أن مجموعة النصوص الطبية البابلية الكبيرة التي درسناها تعود للإمبراطورية البابلية الأولى. واللوح الذي نحن يصدده الآن له خصائص استثنائية في بعض النواحي، فهو نسخة لا تحمل تاريخ اللوح الأصلي، رغم وجود احتمالية كبيرة بعائديته إلى الألفية الثانية ق.م التي شهدت نشاطاً كبيراً في جمع وتحرير النصوص الطبية. وقد نشره كوشر برقم 234 في السلسلة المعروفة لدى علماء الأشوريات بالأحرف الأولى BAM. وقد تم تحريره لاحقاً بترجمة وتعليق من قبل ريتروكينير ويلسون. وهو يتضمن وصفاً سريرياً مطولاً بشكل استثنائي، يتبعه علاج ذو طبيعة طقسية.
لم يكن مفهوم الاكتئاب كعارض أو حالة سريرية معروفاً عند البابليين. وكانت مدوناتهم عن المرض العقلي تتميز بموضوعيتها وغياب المشاعر والأفكار الذاتية. ومن المتعارف عليه أن مفهوم الاكتئاب كتشخيص سريري جديد نسبياً ويعود لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما استبدلت الكلمة اليونانية المالنخوليا السوداء melancholic بكلمة الاكتئاب depression بعد أن ثبت عدم صلتها بهذه الحالة. أما في اللغة البابلية، فيوجد أسم ašuštu المشتق من الفعل ašašu ، والذي يفهم عموماً على أنه يعني ( الضيق ) وربما يشمل معنى ( الاكتئاب ) رغم صعوبة التأكد من المعنى الدقيق في حالات معينة. كما يرد في بعض النصوص الطبية استعارة للمصطلح  السومري zikurrudû الذي يعني حرفياً قطع أو تقصير الحياة، وقد فسر على أنه يعني الانتحار أو محاولة الانتحار أو الميول الانتحارية، والذي قد يعني أيضاً الاكتئاب في بعض الحالات. لقد ميز البابليون مشاعر الخوف وأعطوا لها وصفاً بكلمة puluhtu أو الفعل iptanarrud الذي يعني ( دائم الخوف ) وقد يكون مختلفاً بشكل طفيف عن كلمة  hip libbi التي تعني حرفياً ( كسر العقل ) وهي تفسر على أنها انهيار عصبي أو ربما نوبات الهلع.
في اللوح موضوع البحث، يرد نصٌ سريريٌّ لا يمكن الجزم، إن كان يشير في الأصل لحالة واحدة متعلقة بـ ( رب أسرة )، أم هو يقدم وفقاً للتقاليد الطبية البابلية المعتادة، الصورة السريرية الكاملة المستمدة من ملاحظة حالات عديدة. وكلمة ماميتو التي تذكر في المعالجة الطقسية تعني القسم أو الإكراه، وقد تم صنع ودفن تمثالين أو صورتين مضادتين للماميتو لكسر قسم أو تحكم الإله أو الإلهة الشخصيين الساخطين. والتضرع موجه إلى شمش، اله الشمس والعدالة.
ترجمة النص:
 إذا أصيب رب أسرة awilum بفترة طويلة من سوء الحظ، ويكون جاهلاً سبب حدوثها، وجعلته يعاني باستمرار من الخسائر والحرمان، بما في ذلك، خسائر الشعير والفضة ونقص العبيد والإماء، وكانت هناك حالات هلاك لثيران وخيول وأغنام وكلاب وخنازير وحتى موت أفراد من عائلته. وإذا كان يعاني من انهيارات عصبية متكررة، وتصدر عنه باستمرار أوامر ونداءات لا يستجيب لها أحد. وإن كان يسعى لتحقيق رغباته، وفي ذات الوقت يكون مضطراً لرعاية أسرته. إذا كان يرتجف من الخوف في غرفة نومه، وتضعف أطرافه. ويكون بسبب حاله هذا ناقماً على الإله والملك. وفي بعض الأحيان تعتريه مخاوف تمنعه من النوم في الليل والنهار، وتراوده باستمرار أحلام مزعجة. ويصيبه هزال بسبب عدم أخذ كفايته من الطعام والشراب. وإذا كان ينسى ويصعب عليه تذكر الكلمة التي يحاول أن يقولها. فهذا الرجل قد حل عليه غضب إلهه أو إلهته.
ولكي يحرر من حاله هذا، ولا تتغلب عليه مخاوفه، عليه اتباع هذه الإرشادات: يصنع صورتين مضادتين للماميتو على هيئة تمثالين لذكر وأنثى من طين وصلصال الفخار ويكتب اسميهما على جانبيهما الأيسر. يكسى التمثال الأنثوي بمعطف ودثار وغطاء رأس من صوف أزرق وأسود وأبيض. وحول الرقبة يضع حجر أبيض. أما التمثال الذكر، فيكسى كذلك بمعطف ودثار وغطاء رأس مع حزام من صوف أبيض غير مغزول يربط على حقويه. ثم يقوم قبل شروق الشمس بإعداد الطقس المعتاد؛ يعُد وعاء القربان والى جانبه يقدم أطباق من التمر ودقيق القمح. وينحر ذبيحة شاة نقية لا عيب فيها، ويقدم الكتف اليمنى سمينة ومشوية للإله شمش. ثم يقوم بتقديم الصور المضادة للماميتو معلناً أسماءها ومردداً التعويذة التالية:
يا شمش، ملك السماء والأرض، رب القانون والإصلاح والعدل، من أجل بقاء تمثاليَّ حيين، قمت بتنقية صلصال الفخار، وأعطيتهما خرزتيهما الفضيتين، وأنا في تقديمهما لك أقدم إجلالي وتعظيمي لك. فلتدع تمثاله يتحول إلى رجل، وتمثالها إلى امرأة. يا شمش، أيها الرب العلي العليم بكل شيء، أنا فلان، أبن فلان، خادمك المحترم، من هذا اليوم فصاعداً سأمشي أمامك، لذا، كما تشرق إلوهيتك العظيمة علي فيما ابتليت به من تحكم الماميتو التي استولت علي، وتلاحقني في الليل والنهار، وتستنزف جسدي، وتستعد لإنهاء حياتي، بأمر من إلهك العظيم، أجعل هذه الصور تحل بديلاً عن جسدي وشخصي، ولتكن تماثيلي بديلة عني. وإلى إريشكيجال، الملك العظيم للعالم السفلي، أدفن بدائلي هذه في الأرض قائلاً: صحة تامة وعمر طويل. هل تأمر بذلك وتفتح بابك لي.
يتعرف الطبيب النفسي المعاصر في هذا النص على وصف دقيق للغاية للاكتئاب الحاد الذي يتسم بخصائص بيولوجية تشمل الأرق وفقدان الشهية والضعف وربما فقدان الوزن بالإضافة لضعف الذاكرة وصعوبة التركيز. ومثلما هو الحال في اضطراب الوسواس القهري، لا يصف الكاتب الأفكار أو المشاعر الذاتية، بل يرصد الاكتئاب والخوف والانفعال وربما نوبات الهلع، الأمر الذي يشير كتفسير أولي لحالة من القلق. وكانت النظريات الخارقة للطبيعة كسبب للجنون هي السائدة لحقب طويلة من الزمن، وقد حدد الإغريق أربعة أنواع من الجنون السماوي الذي يرتبط كل منها بآلهة معينة. وهي الجنون التنبؤي (أبولو)، والجنون الغائي أو الطقسي (ديونيسوس)، والجنون الشعري (إلاهات الإلهام)، والجنون الإيروتيكي (أفروديت وإيروس) وتداخلت عندهم الكآبة مع الجنون الشعري بسبب الارتباط المفترض بين الكآبة والعبقرية.
البابليون كان لديهم أيضاً آلهتهم، لكنهم لم يعتبروها سببا للأمراض التي لا يمكن تفسيرها أو السلوك غير الطبيعي. ونسبت عندهم لمجموعة متنوعة من الجن والأرواح الشريرة أو كما في هذه الحالة، لغضب الإله الشخصي. و على النقيض من ذلك،  لا تظهر الآلهة العليا مثل شمش أو مجمع الآلهة في النصوص الطبية العلاجية العامة، لكنها تظهر في النصوص التي تهتم بشكل أساسي بالحالات العقلية. وبقدر ما نعرف، لم تكن الآلهة الشخصية بقوة الآلهة العليا، وهو ما يفسر اللجوء إلى شمش إله العدالة في هذه الحالة. وربما شعور المريض بالظلم في محنته هو سبب هذا الاختيار.