إبراهيم زاير.. طري العود الغائب

ثقافة 2024/08/28
...

 جمال العتابي

إبراهيم زاير، الفنان الشاعر الكاتب الصحفي الجنوبي الممتلئ، يسحرك بتواضعه وطلاقته الطفوليَّة، لم يدخل هذه الميادين من النوافذ، أو بتوصيات جهة ما، بل المطلوب منه أن يمرّ عبر أكثر المسالك وعورة، هذه المسالك التي لا يخاطر الكثيرون بولوجها حفاظاً على أمانهم أو حتى كسلهم، فظلّ مخلصاً لتجربته.
ربما الكثير لا يعرف إبراهيم، غير أن ثمة حقيقة ينبغي ذكرها، إنه ينتمي لجيل مختلف بأفكاره، متناقض مع أسباب تكوينهم الفكري، جيل خيبة وانكسار راح أبناؤه يبحثون عن أبطال جدد، غيفارا، مقاتلي الأحراش والمغارات، كانت أفكار "دوبريه" و "ماركوز" تداعب مخيلاتهم. أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر من الأفكار عن خلاصٍ ما، غير الخلاص الذي وعدتهم به أحزابهم، كانوا يبحثون عن أمل جديد ولنقل: وهم جديد، تسوغ لهم اختياراتهم الجديدة، فليس مستغرباً أن يتنطّع بعضهم بالكفاح المسلح في الأهوار، أو في وديان الجبال المطلّة على أرض فلسطين، من هؤلاء كان زاير الذي دخل معترك السياسة كثائر من يوم ولدته أمه "مايعة وادي"، التحق بصفوف القيادة المركزيّة التي أعلنت مواجهة النظام بالكفاح المسلّح، ثم انضمّ إلى المقاومة الفلسطينية وهو في ريعان شبابه، وقمة عنفوانه وعطائه الفني والأدبي والصحفي.
ولد زاير في العمارة عام 1944 في زمن كانت فيه الأمهات على فاقة، نائمات يضرّسهنّ وحام الشهور، كان كل شيء ضنيناً، الأطفال يولدون يطعمهم الفقر، ويدثّرهم الوجع، في أزمنة القحط تشتدُّ الهجرات إلى المدن، كان على الأب أن يعيش في وهم محو سوءات الأعوام المرّة هو الآخر. لعل شهيق الغيوم يردّ المطر للأرض الممحلة، للبلاد التي غاب عنها الصحو. فأراد الابن أن يتمرّد على تاريخه الطفولي مشحوناً بالأمل بقوة، فتمرّد على اسم ابيه واختار الاسم الأول لاسم جدّه المركّب زاير حسين كنية له، امعاناً في انتمائه للجنوب، منذ صباه كان يرسم على الحيطان بمادة الفحم، ويكتب مذكراته اليوميّة، ظلّ هذا التقليد ملازماً له طيلة سنوات عمره القصير.
إبراهيم أحد العلامات المهمّة في بغداد في أقل عقد من الزمن، عقد الستينات كأنّه مفصّل عليه وحده، درس في معهد الفنون الجميلة، كان الأول على دفعته في المعهد، ثم في أكاديمية الفنون الجميلة، وخلال هذه الفترة استطاع إبراهيم أن يلفت انتباه أساتذته في الرسم لموهبته الفائقة في التخطيط، والرسم، ووجد نفسه في وسط المشهد لا هامشاً، فاعلاً ومؤثراً، يتبادل الحوار، ويناقش الأفكار والمفاهيم الجديدة، ومن المقاهي التي كان هؤلاء روّادها، انطلقت الرياح الجديدة في الأدب والمشاريع الثقافية وأخذت طريقها من تخوت مقاهي "البلدية، عارف أغا، البرلمان، ليالي السمر، المعقدين، ياسين"، كان يحيط بزاير مجموعة من الأصدقاء: مؤيد الراوي، أنور الغساني، عبد الرحمن طهمازي، جليل حيدر، شريف الربيعي، وليد جمعة، عارف علوان، خالد الحلي، خالد يوسف، رياض قاسم، زهير الجزائري، عادل كاظم، جليل العطية، عمران القيسي، خالد حبيب الراوي، محسن الموسوي، صادق الصائغ، فاضل عباس هادي، سركون بولص، فاضل العزاوي، عبد الرحمن الربيعي، فايق حسين، وغيرهم، وتمرُّ الأيام ليلتحق بهذه المجاميع "إبراهيم أحمد، فوزي كريم أحمد خلف، وحميد الخاقاني"، كانوا نخبة من المثقفين - عايشهم وجادلهم -  بلغة تنبض بأسلوب وسحر جديدين، وايقاع روحي يعيد الصياغات بطعم فريد، يشقّ إبراهيم طريقه نحو الصحافة، استطاع بسرعة أن يتصدر قائمة المصممين والإخراج الصحفي، وكتابة العمود الصحفي، وجد فرصته الحقيقية في التعبير عن قدراته الإبداعية ببراعة ورهافة حس في ميادين العمل فكانت تجربته قد تطورت وازدادت خبرته بمرور الزمن من خلال عمله في عدّة صحف ومجلات، وتصدرت إحدى أعماله الفنية غلاف مجلة "الشعر69" العدد الثالث، فضلاً عن قصائده وتخطيطاته.
كان يكفي إبراهيم من الناحية الذاتية شعوره بأنه ينتمي إلى هذا الجيل المختلف وعياً ورؤى، وبوسعنا أن نعدد عشرات الأسماء من الأدباء والفنانين، أهم ممثلي هذا الجيل الصاخب، وبوسع المتابع أن يتقصى ظاهرة الجيل الجديد التي شكلتها الظروف الذاتية والموضوعية وامتداداتها في بلدان عربيّة أخرى.
كان إبراهيم رجلاً وسيماً بالقياسات الشرقية والغربية، بدن رياضي طويل ورشيق، سحنة متوترة وشديدة القلق، عينان حزينتان عميقتان لا تستقران في مكان، وقوة جسدية كانت أحياناً مطلوبة في بعض المواقع الحياتية والنضالية، حسب ما وصفته الكاتبة عالية ممدوح. كتب في الشعر والرسم والنحت، انتمى لجماعة المجددين عام 1965، وشارك في معرض الجماعة الثالث مع الفنانين: خالد النائب، طالب مكي، عامر العبيدي، نداء كاظم، يحيى الشيخ، يقول عنه صديقه عبد الرحمن طهمازي: كان يبدو حرفياً متوازناً، فهو مصمم ورسام ايضاحي وتعبيري وبورتريتي وكاريكاتوري، وكاتب عمود يومي وريبورتاج، وقائد مقابلات وحوارات، ومحرر عناوين وتعليقات موجزة، ومسؤول صفحات يوميّة وأسبوعيّة، اختار العمل السياسي الحزبي واخرجته التجربة مهيض الجناح عام 1970 بانهيار تنظيم القيادة، كنا نتصارح، يقول طهمازي: أن لا تتحول لحظة ضعفنا إلى قاعدة تحت تصرّف السلطة آنذاك من أجل أن ننجو من أوبئة اليسار المحلي والعالمي. ذهب إبراهيم الى بيروت مع المقاومة الفلسطينيّة، وكأنّه بدا متماشياً مع القدر العام نحو القدر الخاص الذي حاصره.
لم يكن فشل التجربة السياسيّة التي خاضها إبراهيم مع رفاقه في القيادة المركزيّة، السبب الوحيد الذي أدخل إبراهيم في حالة اكتئاب مريرة دفعته إلى مغادرة العراق، نحو لبنان ثم التحاقه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والعمل مديراً لتحرير مجلة "الهدف" التي يرأس تحريرها غسان كنفاني الذي رعاهُ واهتمَّ به ككاتب وفنان ومناضل، ونشرت له مجلة "مواقف" قصيدة عنوانها "وردة الضحايا".
انشقَّ زاير عن الشعبيَّة وشكّل مع مجموعة أخرى "الجبهة الثوريَّة لتحرير فلسطين"، كانت خيبة أخرى لجميع من عقدوا عليها الآمال بوصفها تياراً يساريّاً ثوريّاً. كان في تجربته الأخيرة مفتوناً بوحدة التعارضات في داخل هذا المختبر دائماً، دائم التأمل، يغني ما أن يسمع صوت موجات البحر تتلاطم في الليل، ويحلّق إن أراد في أهوار اللذائذ، حيث لا هدف ولا تعلّة، في كل صباح يستيقظ في مضطجع غريب وجدران غريبة، أمام وجوه يستعيدها على مراحل، كان وجهه هو الأخير، سحب المسدس الذي احتفظ به في ركن من الدولاب بين رفوف الكتب، فيطلق النار عليه برصاصة واحدة.
 جماعة "البؤس والمرح" أبطال رواية "حي 14 تموز" لسهيل سامي نادر، كانوا في مشيتهم المتهادية الضائعة على جسر الجمهورية في جو ربيعي بغدادي رائق، اجتازهم طهمازي وشخص آخر قصير القامة يشبه مسيحيي الشمال وهما يضحكان بصوت مرتفع، أحدهم يعرف الأول لأنه درّسه اللغة العربية، وهو يشبه سارتر بسبب نظارته السميكة الدائرية وأنفه البارز. كان طهمازي يقول لصاحبه: في هذا الجو أظن إبراهيم زاير نادم في قبره.
أحدهم كان قد سمع بزاير، أدار رأسه إلى أصدقائه وتساءل: لماذا انتحر؟ لا جواب مقنع.
من ينتحر يُحرّك في الأحياء أفكاراً يقمعونها، فها هو واحد منهم يتعالى عليهم في إرادة جبارة مسخّفاً الحياة والشهوات والأفكار الإيجابية التي تدير رؤوس التجار وصانعي الآمال الكبار.