نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف

ثقافة 2024/08/28
...

     د. عبد الجبار الرفاعي

عمليةُ التفكير وظيفةُ العقل، العقلُ لا غير هو الحاكمُ على صوابِ أو خطأ نتائجِ أيِّ تفكير. لا العلم ولا اللاهوت ولا الأدب ولا الفن يضع حدودًا للعقل، لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقل، إن كانت للعقل حدود. أيةُ محاولةِ نفي للفلسفة تتضمن التدليلَ على حضورِ الفلسفة في النفي مثلما تحضر في الإثبات. نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف، حتى الغزالي الذي حاول في "تهافت الفلاسفة" نفيَ الفلسفة أخفق، كما اعترف تلميذه أبو بكر ابن العربي بقوله: "شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيأها فما استطاع". الفلسفةُ لا تموت ولن تموت ما دام هناك إنسانٌ يتساءل الأسئلةَ الكبرى حول المبدأ والغاية والمصير، ولا يجد جوابًا نهائيًا لها.
إيقاعُ التقدّم المتسارع للذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتكنولوجيات المتعدّدة التي تتحدث لغةَ الذكاء الاصطناعي وبرمجياته، والهندسة الجينيّة، وتكنولوجيا النانو، يخلقُ طورًا وجوديًّا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء في المحيط الذي يعيش فيه، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدّمُ المتسارِع حالةَ لا يقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقداتِ، والثقافاتِ، والاقتصاداتِ، والنظمَ السياسية، والسياساتِ المحليّة والإقليميّة، والعلاقاتِ الدوليّة، والعلاقاتِ الاجتماعيّة، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله. كلّما تضخّم اللا يقينُ واتّسعت مدياتُه اتّسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجوديّة الكبرى، وأزماتُ العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.
التشديدُ على العلم، واختزالُ العقل والمعقولات والتفكير بحدوده، يشاكس العقلَ الفلسفي، وينتهي إلى افتقار العلم إلى إجاباتٍ لأسئلته الحائرة ومشكلاته العويصة، وكلّ ما لا يجد له حلًّا في فضائه وسياقاته وحدوده. تختنق المعرفةُ حين توضع في الفضاء الذي يخضع لحدود العلم الطبيعي ومجاله الحسّي خاصة، وحين تعتمد مقاييسَه وأدواته التجريبيّة ووسائله ومنطقه ولغته وأحكامه. تلك هي أدلجة العلم عندما يتحول العلمُ إلى "أيديولوجيا علمويّة" تعطّل العقلَ الفلسفي. حدود العلم الطبيعي وحقله يتمثلان في كلّ شيء في الطبيعة والكون المادي، الفلسفة لا حدودَ لها، بوصفها فعلَ تفكير عقلي يتجاوز الظواهر للبحث في حقيقة العلم وماهية المعارف والموجودات.
الفيلسوف يجيب عن سؤالِ المبدأ والمصير، والحياة والموت، وغيرها من الأسئلة الوجوديّة الكبرى، ويجيب عن كلِّ سؤال خارج العلم بالمعنى التجريبي. لا نهاية للفلسفة، يظلّ الإنسانُ يتفلسف ما دامت الحياةُ والموت، وما دامت الأسئلةُ الوجوديّة التي لا تجيب عنها العلوم. ‏‏العلم غير الميتافيزيقا، كلُّ سؤال وجواب ميتافيزيقي بالإثبات أو النفي هو تفلسف خارج حقل العلم. عندما يقدّم أحدُ علماء الطبيعيّة أجوبةً عقليّة للأسئلة الوجوديّة الكبرى، ينتقل تفكيرُه من حقل العلم إلى حقل الفلسفة بهذه الأجوبة. علاقةُ الفلسفة باللاهوت ديناميكية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوتُ بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات، إنّه سؤالٌ مفتوح، وكلُّ سؤال مفتوح مَنجمٌ ثمين للتفلسف. كلّما ابتعد اللاهوتُ عن الفلسفة وقع فريسةَ تفشِّي اللامعقول وتغوّل الأوهام. لا يضع اللاهوتَ في حدوده ويمنع تغوّلَ الأوهام إلا الفلسفة، ولا يتجدّد اللاهوتُ إلا عندما يعيد النظرَ في الحقيقة الدينيّة ويتأملها بعيون فلسفيّة. لا تداوي الفلسفةُ جروحَ الروح والقلب، العقل الفلسفي مشاغب لمن يمتلك قدرةً ذهنيّة على إيقاظه بالتساؤل العميق حتى في البداهات. التاريخ والواقع يشهدان بأنَّ الأذكياء جدًّا والعباقرة تعذِّب وعيَهم الأسئلةُ الوجوديَّة الكبرى التي لا جواب نهائيًا لها، حياة كثير من الفلاسفة كانت تقلقها الأسئلة وتوالدها المتواصل من الإجابات.
من مظاهر افتقار الفلسفة لمعناها البدايةُ بمقدماتٍ فلسفيَّة ومنطقيَّة، بغيةَ ترسيخ اليقين بمسلّمات لاهوتيّة. الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي خارج اللاهوت، لغةُ الفلسفة ومصطلحاتها تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللامعقول. العقلُ معيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أنشطةِ الذهن مهما كان. واحدةٌ من مشكلاتِ التفكير الديني التفكيرُ بالفلسفة ضدّ الفلسفة، والتحدث والكتابة بلغة تحاكي لغةَ الفلسفة إلا أنها ضدّ الفلسفة. يجري توظيفُ التصوّف واللاهوت في الفلسفة، والتفكيرُ في فلسفة الدين بعقلٍ كلاميّ من شأنه أن ينقض كونها فلسفة، كما نقرأ لدى مَن يفكرون في التعدّديّة الدينيّة بعقل متكلم، أو فقيه. يتسيّد تفكيرٌ لاهوتيٌّ بالعربيّة يكتب الفلسفةَ برؤية علم الكلام للعالم ومقولاته، وذوقٌ صوفيٌّ يكتب الفلسفةَ بمرآة التصوّف ومكاشفاته. صارت هذه صنعة جماعة من المفكرين الذين نحتوا لهم أسماء كبيرة، أُغرم بهم شبابٌ عرب نفروا من تبسيط أدبيات الجماعات الدينيّة، فاحتلت كتاباتُ هؤلاء المفكرين مواقعَ متقدّمة في الجامعات والدراسات العليا، على الرغم من أنّهم يفكرون في الفلسفة بعقلٍ كلاميٍّ وفقهيٍّ، وأحيانًا صوفي، ويصدرون مقولات كلاميّة وفتاوى فقهيذة لا صلة لها ‏بالتفكير الفلسفي، وإن تدثرت بلغة الفلاسفة. هذه المحاولات المتنوعة تسعى لخلع غطاء ديني على الفلسفة وتعمل على أسلمتها. أسلمة الفلسفة ضربٌ من التفلسف ضد الفلسفة، وإن كان مَن يدعو لذلك عبقريًّا. وهذا ليس غريبًا، فأحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا فذًّا في مجالٍ يقظٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في مجالٍ نائمٍ من عقله. يتراجعُ العقل وينزاح بالتدريج أحيانًا، بعد أن تتسعَ المساحة النائمة للعقل فتعطّل ما هو يقظ. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقيَّة لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنيَّة والثغراتُ المنطقيَّة في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنيَّة في الطبيعة البشريَّة. هذا هو السرّ الذي يجعل هؤلاء يبدؤون بمقدماتٍ عقليَّة وينتهون بنتائجَ غير معقولة.(1)
على الرغم من أن الفلسفةَ تستعمل العقل خارجَ الوصايات، إلا أن العقلَ وقع تحت وصاية علم الكلام، حين أجهضت المقولاتُ المغلقة لبعض المتكلمين العقلَ الفلسفي في الإسلام. وتسيّد عمليةَ التفكير بكلِّ شيء هاجسُ الحرام، فصار سؤال المسلم عن كلّ صغيرة وكبيرة في كلِّ شؤون حياته، حتى في نوع العلوم والمعارف والثقافة، وفي أيّ شأن كان، عن كونه حرامًا أو ليس بحرام، وانتهى هذا المسار إلى تحريم الفلسفة. صدرت فتاوى من مختلف فقهاء المذاهب بتحريم تعاطي الفلسفة، أشهرها فتوى ابن الصلاح الشهرزوري (577 - 643 هـ/ 1181م - 1245م) التي جاء فيها: "الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرتُه عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبّس بها تعليمًا وتعلّمًا قارنه الخذلانُ والحرمانُ، واستحوذ عليه الشيطان... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخلُ الشرِّ شرٌّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلّمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر مَن يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه وأما استعمال الاصطلاحات المنطقيَّة في مباحث الأحكام الشرعيَّة فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعيَّة".(2) عندما وقع العقلُ تحت وصاية فتاوى الشهرزوري وأمثاله، انغلق على نفسه، واستنزف التفكيرَ الديني في الإسلام التكرارُ والاجترارُ المملُّ، ونامت الأسئلةُ الكبرى، واضمحل حضورُ العقل النقدي الخلّاق.
يصعب جدًّا فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقليّة أرسطيّة، كلُّ محاولةٍ للفهم تفكّر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدماتٌ تصوريّة وبراهين وأشكال قياسات المنطق الأرسطي. وهو ما سقطتْ فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في معاهد التعليم الديني وغيرها من مؤسّسات التعليم التقليدي والحديث، ممن أتقنوا المنطقَ الأرسطي وتشبّع ذهنُهم بمقدّماته التصوريّة وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفيّة والكلاميّة والفقهيّة والأصوليّة. هناك خبراءُ ممن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفةٌ جيدة باللغات الفرنسيّة والألمانيّة والإنجليزيّة، يتسيّدون المشهدَ الفلسفي في بعض البلدان العربيّة، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيون متديِّنون، غير أنّهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدّمون قراءاتٍ موهِمةً ومضلّلة للفلسفة الحديثة، تُلوّنها بألوان مشوّهة، وتُقَوِّلها ما لا تقول، القارئُ الخبير يدرك أنّهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة.

(1 ) الرفاعي، عبد الجبار، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ص 301، منشورات تكوين بالكويت، دار الرافدين ببيروت.
(2 ) فتاوى ابن الصلاح (١/ ٢٠٩ - ٢١٢).