وجوه متعددة للأزمة الثقافية

ثقافة 2024/08/29
...

  جمال العتابي

المفاهيم والآراء والأفكار التي تطرح كمشاريع ثقافيَّة أو بديل ثقافي، ظاهرة ايجابيَّة تستحق العناية والتأمل، وإن جاءت بمتبنيات عراقيَّة، إلّا أنَّ عدداً غير قليل من المفكرين العرب كانت له أفضليَّة السبق في صياغة رؤاهم عبر نظريات جديدة في ميداني الفكر والثقافة، حققت قبولاً وانتشاراً سريعاً في الأوساط الثقافيَّة، لأنَّها تصدت للواقع المتخلف، وواجهت بضرورة اساليب مصادرة العقل، ومنهم "عبد الله العروي، أدونيس، محمد الجابري، أركون، جورج طرابيشي" وغيرهم، لذا تأتي الدعوات في هذا الميدان، امتداداً لتلك المحاور المعرفيَّة التي شغلت المثقف لعقود من الزمن وما تزال في تشكيل وعي الإنسان وتحقيق ذاته ووجوده، من دون خضوع لتأثيرات أيديولوجية.
نحن إذن بإزاء إرادة إنسانيّة تسعى الى تغيير واقع ما، ذاتاً أم مجتمعاً، وإزاء معطيات فكريّة ذات ارتباط بحقل المعرفة يراد بلورتها كمنطلقات نحو الإصلاح.
هذه المحاولات في محاورها المختلفة، وخطاباتها المتعددة تستجيب إلى سؤالين: سؤال الثقافة، وسؤال الذات سواء على مستوى الفكر، والفلسفة والسياسة، والتاريخ، أو الإبداع عبرهما تناقش الأفكار بوعي نقدي مختلف. لأنّنا بالسؤال نختبر حيوية المعرفة، وفي تعدد الأسئلة يكون الجدل اللانهائي في مفاهيم أخرى: الأصالة والمعاصرة، الذات والأنا والهوية، التراث والتجديد.
القراءة المتأملة للأفكار تدعو منذ البدء الى عدم التسرّع في اطلاق الأحكام، إنّما واقع الحال يقتضي مناقشتها بنظرة واعية وعميقة، فكثيرة هي المشاريع الثقافيّة والفكريّة والنقديّة التي حاولت البحث في أسباب أزمة الثقافة، والمثقف كونه مبدع القيم والأفكار لا يختبر المقولات فحسب، انما يختبرها في حركة الثقافة في الذهنية الثقافية، وتحولات المجتمع، نعني الاحتكام الى الواقع، لأنه في هذين المختبرين يكتشف فاعليته وأثره ومدى استجابة "مشروعه" لتحولات الواقع وحركة التاريخ. وباعتقادي ان محاولة حصر تفكيرنا فيما يسمى بمشاريع هي محاولة للتأطير كذلك، بينما ينبغي أن يترك الفكر حراً طليقاً من دون قيود.
ولما كان الخطاب الإصلاحي غالباً ما يبحث عن معادل موضوعي له في صميم الحياة المجتمعيَّة، فإنّه يتوجه الى أزمة الثقافة في بداية الأمر. والمثقف أولاً. لأن مفهوم الازمة ملازم لمفهوم الثقافة، وموضوعة الاصلاح هي موضوعة فكرية - فلسفية، وهو يتطلب دائماً بناءً عقلياً يصوغ الرؤى التي تنشد تغيير الواقع الذاتي للإنسان وتغيير المجتمع الذي ينتمي اليه، وقصدنا المثقف لان وعيه يجعل تفكيره خارجاً عن إطار ما هو متحقق بالفعل، بل ان المثقف كان في معظم العصور خارجاً عن إطار القيم الشائعة، هذه الأزمة مزدوجة بطبيعتها، فهي من جهة تعبّر عن عجز الواقع من مسايرة الفكر، وربما بالضد من هذا المعنى حين يكون الواقع هو الأسرع تطوراً من الفكر، في المجتمعات سريعة التطور، ونتيجة لهذا التعارض تتلاحق الازمات الثقافية، وتتخذ في كل جيل شكلاً جديداً، او تطرح مفاهيم جديدة.
   المهم في الأمر أن مفهوم الازمة ينتج عن التصادم بين الفكر والواقع، ويبدو أنه ملازم للتطور الحضاري للإنسان، بل ربما كان علامة صحيَّة تدلّ على يقظة الوعي الإنساني ورهافة إحساسه بالظروف المحيطة به.
  ولكن للأزمة معنى آخر أضيق نطاقاً، تكون فيه تعبيراً عن مرض أو اختلال، يتمثل في القيود الشديدة على حرية التعبير بوجه عام، أو أن توكل الثقافة الى الجهلة الذين يتعمّدون تخريبها، أو نشر التفاهة، ان جزءاً من هذه الأزمة في بلداننا العربيّة ينتمي الى هذا النوع الأخير. وغالباً ما تكون مقدمات أسباب فشل مشاريع الثقافة هي في إحالتها الى عناصر وإدارات تقف بالضد من الثقافة.
وهنا يتبين لنا أنّ العلاقة بين الثقافة والسلطة هي التي تتحكم الى حد بعيد في ازدهار الثقافة أو وضع المعوقات في طريقها، والأخطر في هذا النهج أن تبتعد المؤسسات الثقافية غير الحكومية عن أداء مهماتها الحقيقية لتتحول الى ظل تابع للحكومة، حينذاك تفقد هذه المنظمات والاتحادات والنقابات الثقافيّة والأدبيّة استقلاليتها المهنيّة وتتحول إلى أدوات تابعة الى السلطة، هنا تتفاقم الأزمة وتتعقد حين يكون طرفا المعادلة - السلطة، والمنظمات -  متفقين على إبعاد المثقف الحقيقي عن دوره الفاعل، المؤثر في المشهد الثقافي، واقصائه عنه بشتى الوسائل والأساليب، فتضيع المعايير، والرؤى الوطنية المسؤولة، ويتسرّب أولئك البعيدون عن الهمّ الابداعي الحقيقي والنقدي إلى ادارة تلك المؤسسات، ويتحول العمل النقابي الى مكاسب ومصالح شخصية، وامتيازات لخاصة (أبدية) متهالكة من أجل البقاء فترة أطول في المواقع القياديّة لتلك المنظمات. ومن البديهي أن لا يمضي الطارئ بخديعته الى النهاية.
كما تتعدد وجوه الأزمة في الشرط الأول للإبداع هو الحرية، كيف للمثقف أن يتنفّس هواء الحرية وهو مكبّل بقيود السلطة السياسيّة القائمة، والسلطة الدينيّة، والأمضى حين يكون هناك قيد آخر يفرضه الجمهور الجاهل، فالمثقف الحقيقي يتجنّب المساس بهذه الجماعات التي تترصّد أي فكر مجدد يخرج عن إطارها الخاص، أو معارض ومختلف معها، وحتى الرأي الآخر يصبح تهمة تهدد   صاحبه. بمعنى آخر أن رجل الشارع الجاهل يصبح رقيباً أكثر شراسة من رقابة السلطة.
هذا التعارض مرتبط من دون شك بالتخلّف الثقافي، وغياب الوعي، وحين تكون النخب وحدها القادرة على تذوق الأعمال ذات المستوى الرفيع، وتكون الغالبيّة عاجزة عن الاستمتاع إلّا بالأعمال السطحيّة المبتذلة، في مثل هذه الأوساط، تتخذ هذه المشكلة صيغة حادة، يكون فيها الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المزيفين لخداع الناس بثقافة سطحيّة تتملق غرائزهم وعواطفهم، أو تشل عقولهم وتغيب وعيهم.
  والخلاصة أن البحث في أوضاع المثقف والمثقفين يقتضي إبداء اهتمام أكبر بنوع العقل الذي يراد تكوينه للإنسان، وهل هو عقل مشدود الى الخلف؟ أم جامد في مكانه؟ أم هو عقل قادر على التطلع بأمل إلى مستقبل أفضل؟.