موبي ديك: رمزيَّة الوجود الإنساني
ترجمة: كامل عويد العامري
"نادني إسماعيل". يحدد السطر الافتتاحي لرواية "موبي ديك"، التي ربما تكون الأشهر في الأدب الأمريكي، النبرة التي تسير عليها الرواية. يطارد القبطان الشهير آهاب حوت هيرمان ملفيل عبر كل البحار والمحيطات وسفينته بيكود، التي لا تقل شهرة. يبدو اسم سفينة صائد الحيتان ذاته، وكأنه نبوءة مشؤومة، حيث يشير إلى "البيكوات"، وهم أفراد قبيلة من الهنود الحمر أبادها المستعمرون الإنجليز في خريف عام 1636.
على متن السفينة، كانت الأجواء يسودها الهوس والغضب والانتقام. فالحوت اللطيف الذي كنا نتخيله في طفولتنا يتحول، بعد أن نزعنا أقنعة المعتقدات، إلى حوت عملاق شيطاني، "جبل من الثلج" ضخم ووحشي، حيوان بحري لا يرحم، وهو الذي التهم ساق البحار.
"موبي ديك" رواية عالم ذكوري وأبيض مشبع باليود، إنها تحفة كونية يجب إعادة قراءتها أو اكتشافها كمهرب، بينما تغمر الجسد والروح في التوترات التي تهز الإنسانية منذ أنفاسها الأولى. إن هذه التحفة الفنية المحبوكة بمهارة هي تذكير واقعي بمصير الإغراءات المليئة بالإفراط، والأحلام المليئة بالهوس والمتعجرفة.
كما في رواية "أمير الذباب"، ولكن على العكس من ذلك تمامًا، حيث الأبطال هنا بحارة وليسوا ناجين من غرق سفينة، فإن قائداً مجنوناً يقود طاقمه الباحث عن المغامرة نحو الهلاك، من أجل إشباع رغبته في العظمة. فإذا كان آهاب لا يستخدم الدوافع الإنسانية نفسها التي استخدمها جاك - حيث يستخدم السحر والشاعرية، بدلاً من الدافع للعنف - فإن هذين التجسيدين للجنون المسيحي يقدمان، من خلال اختلافاتهما الواضحة، كتاباً جديداً لعصرنا.
عندما تتأرجح الحياة
في رواية المغامرة هذه، يواجه الإنسان في قصة إسماعيل الكئيب، الناجي الوحيد من صراع حتى الموت بمساعدة تابوت عائم، صعوبة البقاء على قيد الحياة وتحديد معنى هذه الحياة، التي تتقلب باستمرار بين المعتقدات والحقائق.
يختار الراوي لقبًا كتابيًا مليئًا بالمعنى. إسماعيل، ابن إبراهيم، الذي نفاه والده بعد ولادة الابن الضال إسحاق، يجب أن ينجو من قسوة الصحراء مع والدته هاجر.
إسماعيل هو رجل التيه والشك والمنفى. تجسد شخصيته شخصية ملفيل بنسبه الرمزي، تطارده المحيطات هربًا من وجود لا يستطيع أن يعيشه. البحر هو بديله عن الموت، ما "يحل محل الرصاصة والمسدس". ويصل استسلامه أحياناً إلى حد السخرية، كما لو أن قسوة حياته كبحار تعكس عذابات الحالة الإنسانية برمتها. "من ليس عبداً؟ أنا أسألك. يمكن للقباطنة القدامى أن يصدروا لي الأوامر ويضربوني ويركلوني، ولكنني أشعر بالرضا لمعرفتي أن هذه هي الطريقة التي من المفترض أن تكون عليها الأمور."
في هذه المياه، يتزاوج الواقعي بالرمزي. يتزاوج الوصف مع الميتافيزيقا. موبي ديك هي قصة رمزية للوجود الإنساني بكل جوانبه القاتلة والقاسية والمظلمة. في مأزق ردود أفعالنا البدائية الحيوانية. في أعمالنا المعقدة من الوعي إلى القبر. إنه وجه جديد للوياثان – الحوت الهائل، وحش بحر آخر عن المذكور في المزامير والتلمود، حتى لا ننسى أبدًا، كما كنا نعتقد بسذاجة، أن التاريخ لا نهاية له.
تحت قلم ملفيل، يصبح بيكود برج بابل العاطفي والروحي، حيث نلتقي كما هو الحال عند الفيلق الأجنبي بمجموعة متنوعة من الملامح الرجولية الباحثة عن العاطفة، والمعنى، وإعادة التأهيل، والمغامرة. وراء آهاب، تجسيد الشجاعة والجنون الانتقامي، نلتقي بستاربوك الواضح والشجاع، وستاب الهادئ، وكويكويغ آكل لحوم البشر، وتاشتيغو الهندي أو العملاق القادم من أفريقيا، وداغو. ونحن الذين، من خلال التأثير الفريد للخيال الذي يبحر في أدمغتنا المقيدة بقوة الحبكة، نتقمص أجسادهم وحياتهم.
نحن، وأنتم، وأنا، هذا الكائن الذي لا يمكن تشريحه، بتعقيداته المتعددة، تتقاذفه غرائزنا ومنطقنا، وجروحنا، ومخاوفنا، ورغباتنا. نتصارع مع أمواج الزمن التي تجتاحنا، مع الإغراءات، التي تزيدها أو تهدئها المعلومات، مهما كانت زائفة، التي تأتينا أمواجا وتجعلنا، في مهب ريح تيهنا، أما أن ننقلب أو نبقى على متنها.
في هذه الرواية التي لا مثيل لها، والتي نشرت مصحوبة برسوم توضيحية قوية لروكويل كينت... يقدم لنا ملفيل نظرة صريحة إلى أنفسنا في أقسى المرايا. إنه هوميروس القرن التاسع عشر، وهو يستقي من الكتاب المقدس بقدر ما ينافسه في ذلك، ويستعير منه الكثير من الإشارات ويصيغ شخصياته بدوافع شكسبيرية وبروميثيوسية وفاوستية.
الصيد الوحشي الذي يُروى، هو ذلك الذي يواجهنا بشياطيننا، بقدرتنا على ترويضها أو السماح لها بأن تلتهمنا. إنه تساؤل عميق حول أصل الشر وقدره. الطبيعة هنا تُصوَّر بوجهها الحقيقي، مزيجًا من الهدوء والعواصف، بوصفها مصدرا للإبهار واليأس، بعيدة كل البعد عن التمثيلات المثالية التي يقدسها أتباعها الجدد، أولئك الوثنيون الجدد الذين يدعون إلى التبسيط. أما اللون، فغيابه يصبح أداة أدبية تعيدنا إلى عواطف بدائية غريزية وقبلية.
في وسط الرواية، خُصص فصل كامل لبياض الحوت. إنه فصل مذهل، لم يعد فيه اللون الأبيض رمزًا للسلام أو التحالف، ولا كرمز لفراء القاضي أو تمييزاً لأبهة الملوك، بقدر ما أصبحنا نشعر بالنشوة أمام إله يشبه جوبيتر وهو متنكّر في شكل ثور أبيض، أو نقاء لؤلؤة تتلألأ بكمالها. أما اللون الأبيض عند ملفيل، فيصبح "شيئًا ما لا يمكن الإمساك به، يثير في النفس رعباً أكبر من حمرة الدم"، ذلك الرعب الذي "يثير لدى الأمهق نفوراً خاصاً، وغالباً ما يصدم العين، لدرجة أن الإنسان تبغضه عائلته أحياناً، وهو الرعب الناتج عن الشعور بـ "سلطة الرجل الأبيض المطلقة على جميع القبائل السمراء". إنه لون أولئك الذين، في عصرنا وفي عصور أخرى، لا يتصورون بياض البشرة إلا أنه أسمى، فالإخاء الإنساني والحقوق الأساسية تعتبر عندهم شيئاً تافهاً. إنه أيضًا لون نقاء ضائع يسعى إليه جميع المتعصبون: بياض الفردوس في الأديان التي تُقرأ حرفياً. هذا البياض الذي يتسبب سطوعه المبهِر ونقاؤه القاتل في إثارة الجماهير حتى يحجب الحرية.
لا يوجد تشويق حقيقي في رواية موبي ديك. فنحن نعرف النهاية مسبقاً: الغرق. هذا الكتاب العظيم، الذي أشاد به كامو وفارغاس يوسا وهمنغوي وفوكنر، يقودنا من نبوءة إلى أخرى، نحو جنون آهاب الأناني والتضحوي، نحو الهاوية، نحو ذلك "الكفن الهائل للمحيط " الذي "يظل يتدحرج كما كان يتدحرج منذ خمسة آلاف عام.
ولأن الأدب يكشف أسراراً أكثر من القصص التي يرويها، سيجد المرء في هذا النوع من السيرة الخيالية لنهاية العالم ما يساعد على فهم ما يحدث فينا، في بلادنا التي اجتاحتها الإغراءات العدمية وكراهية الآخر، حيث تبحر ديمقراطياتنا الهشة في بحر هائج وخالٍ من الآفاق.
تذكرنا سفينة بيكود في رواية موبي ديك بـ "سفينة الحمقى" الأفلاطونية، وهي حكاية رمزية عن حكومة تتسبب مبالغتها في الانحراف والتفريط في دفع رعاياها إلى الهلاك، وقد قدم الرسام بوش صورة صادمة لهذه السفينة في لوحته الشهيرة. ويرى آخرون في هذا الطاقم المتهور رمزاً للبشرية التي تنجرف نحو الهلاك بحثاً عن الربح أو المجد، فتغرق أمام طبيعة ثائرة. ولكن الأهم من ذلك، كيف لا نرى في هذا الإعصار الذي يتغذى على الافراط بالتطرف انعكاساً لأصولياتنا المعاصرة التي تشق بعواصفها العاتية وملوحتها القارضة حتى هيكل سفننا القديمة؟
إن ما كان ملفيل يرمي إليه هو بالتأكيد أخطار القادة المستنيرين، أولئك الأنبياء الغامضون الذين يستغلون النزعة اللا إرادية السائدة، ليغرسوا في أذهان الجماهير عقائد ملحمية أو أحلام خلاص مستحيلة.
في رواية ملفيل الأخيرة، "المحتال العظيم"، نجد شخصية أخرى خطيرة ومتمردة. يدعونا الروائي هنا مرة أخرى إلى سفينة، هي سفينة "فيدل"، والتي تمثل صورة مصغرة للمجتمع الأمريكي حيث تهز الفورة الطاحنة للربح والهجرة الهويات الثابتة. خلال أيام قليلة، يخاطب المسافرين محتال، قادر على التقمص بأكثر الأشكال غرابة، بهدف انتزاع الثقة منهم أكثر من انتزاع المال. وبفضل جاذبيته وبراعته الخطابية، ينتصر على محاوريه على نحو منهجي، الذين يجذبهم طمع الإغراء بصفقة جيدة. يواجه ملفيل هنا قارئه بمفارقَات المشاعر الطيبة وسهولة التصديق: تماماً فكما يقنع آهاب رجالاً من مختلف الأوساط في ملحمة انتحارية، فإن كلَّ واحد من ركاب السفينة فيدل ينغمس في سحر المحتال وفي سعي يتحول بدوره إلى هوس مدمر.
سواء كانوا خاضعين لنفاق الإيديولوجيات الجذابة كما في روايات غاري، أو لدوافع العنف كما في أعمال غولدنغ، أو للسعي المستنير نحو مطلق مميت كما في أعمال ميلفل، فإن هؤلاء القادة، الذين يجب أن نحذر منهم يخدعوننا باستخدام الآلية نفسها: الشك في الآخر والولع بالدماء. عسى أن يساعدنا الأدب في التعرف عليهم.