حلزون في مجرى الأبد

ثقافة 2024/09/02
...

  كرار رحيم

من بين الشعراء الذين كتبت عنهم، هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها كرار رحيم. لم أعرف هذا البصراوي من قبل.
لا مفاجأة في أن يكتب الشاعر عن نفسه. الجميل أن يكتب عن نفسه وهو في المدينة، يكتب حياته في البصرة هادئة مكرورة بطيئة وبتعبيره الأجمل "كحلزون في مجرى الأبد". يكتب وجهه أمام البحر وجسده في السفينة حين يلقي بقصائد إلى الموج لأن إيقاع البصرة الرتيب كما إيقاع حياته فيها جعله "يمل من القصيدة".
لكنه وهو في بغداد يكتب نفسه مليئاً بالحركة "كم مشينا"، مترعاً بالحيوية التي هي حيوية المدينة "هذه المدينة لا تعرف السكون". ومندهشاً من كونه يمرّ على موطئ أقدام الشعراء القدامى الذين أتوا قبله إلى مقهى الشعراء. وحين يهبط الليل ويحل السكون يريد أن يسمي ما اختبره من سحر فلا يجد أمامه سوى أن يسمي المدينة: بغداد.
شاعرٌ مأخوذ بالمدينة هذا البصري. مأخوذ بأرصفتها التي يستوطنها المجانين والكلاب، ولكثرة ما سار على هذه الأرصفة فهو يعرف العابرين واحداً واحداً و"حذاؤه أملح من كثرة المشي".
قدره أن يبقى سائراً في الزحام، كأنما نهاية المشي نهاية الحياة نفسها. يقول: "لن ينتهي الزحام إلا حين يتوقف الزمن".
أحببت هذا الشاعر لأنه يكتب عن مدننا قصائد ليست تلك القصائد السياحية التي تنشغل بالشائع من ترداد أسماء الأمكنة، بل قصائد من أبلى حذاءه الوحيد بالسير على أرصفتها.
أحببت هذا البصري البغدادي.

أحمد عبد الحسين

كم مشينا
كم مشينا بين الأزقةِ
نمشّطُ وجوه الأبواب القديمة، نطرقها ونبكي.
كُنتَ تقول لي: هذهِ المدينة لا تعرف السكون، نشربُ شايَنا العصريّ، نفرحُ بخفقة الملعقة بمقهى "حسن عجمي"،
وأقولُ لكَ: قد نكون الآن جالسينِ على أريكة الجواهري.
وأشير إلى شجرة حانية،
 تضحكُ حين أقول لك: قد تكون صليب الحلّاج.
وبضجيج السوق لا نُبالي،
نُغني، نرقصُ، مفتونين بالذكرى،
 وحين تخفتُ مصابيح شارعَ الرشيد،
حين يختمرُ الليل وتنام الشمس في آخرَ النهرِ
ننزلُ تحتَ الجسر
يمرقُ الصيادُ
يمرقُ الطيرُ والسمكُ والليلُ
يتلاشى الكونُ ونهللُ للريح
وعلى مدى الأفق صيرورةٌ يمسحُ الربُّ على جبينها
وتضفرُ شعرها الملائكةُ
وأقول: ما كلُّ هذا؟
فتقول: بغداد!

حلزون
القمرُ يلعبُ في المحيط
يدك وحيدة
وعيناك ضائعتانِ في السكون.
تتموّج الطيورُ في السماء
وأنت هُناك في آخر السفينة
واهناً، ثيابك الباليةُ لا ترنو لشيء
تملُّ من القصيدة فترمي ما كتبتَ للماء .
أين تذهب بك السفينةُ؟
أين يذهب بك الوقتُ؟
أين تذهب بك قدماك؟
أين يذهب بك العالمُ وأنت تراه يمشي ببطءٍ،
حلزوناً
في مجرى الأبد.

رصيف الكلاب
وحدك في الساحةَ
تعرفُ العابرين واحداً واحداً
ترتطم بوجوههم في الزحام،
"الزحام لا ينتهي إلا حين يتوقف الزمن"
شَعرُك المبلولُ
 وقميصك المُشجّرُ
حذاؤك الأملحُ من المشيِ دون مللٍ
أنتَ الذي ترى كُل شيء هنا.

الساحة التي كانت مقبرة
أصبحت فُندقًا للمجانين،
 والمجانين لا يثقون إلا بالكلاب
يترنّحون معها على الأرصفة،
عيونهم جامدة
كأنهم ينظرون من ثُقب العالم .