{الأكثر تردداً في التحوّل}.. سيرة مفكِّر قلق

ثقافة 2024/09/02
...

علي حمود الحسن    

معظم أفلام السيرة الذاتية تلجأ إلى السرد الخطي الأقرب إلى الكلاسيكي، عدا قلة، منها فيلم المخرج البريطاني نورمان ستون "الأكثر تردداً في التحول" (2021) الذي يحكي عن السيرة الحافلة للمفكر والعالم اللاهوتي سي اس لويس، ورحلة تحوله من الإلحاد إلى الإيمان، وقد تبدو مفارقة أن المخرج ذاته أخرج فيلماً كلاسيكياً بعنوان "أرض الظلال" (1986) يحكي سيرة لويس، إلا أن ما يميز الفيلم الثاني، فتنة السرد وخفة إيقاعه. اعتمد ستون على الممثل ماكس ماكلي الذي جسد شخصية سي اس لويس، إذ كان راوياً مشاركاً ذاتياً يقص الأحداث ويعلق عليها ويحللها.
 يتناول الفيلم سيرة الكاتب البريطاني سي اس لويس(1898-1963)، الذي هزه الموت المفاجئ لأمه، وتوسله للرب كي يعيدها إليه من دون جدوى، ما شكل لعقله الفتي تصوراً أن الله خذله، فارْتَدّ وراح يفلسف الأشياء من منظور المعترض والناقم على مشيئة الله، دخل الحرب الكونية الأولى كضابط مجند، وخرج منها جريحاً قانطاً، مشغولاً بأسئلة فلسفية لم يجد لها أجوبة، أكمل دراسته العليا ودرّس الأدب الإنكليزي في جامعة اكسفورد، وخاض نقاشات مع زملائه من الأساتذة ومفكري عصره،  طور دراساته وتأمله في مفاهيم:  الوجود، والألم والموت، ليجد نفسه وقد غمرت روحه مشاعر وصفها بـ "الفرح"- له مذكرات بعنوان "أدهشني الفرح"- اقترب من الإيمان وتحول إلى واحد من أهم اللاهوتيين المسيحيين الذين تركوا بصماتهم في القرن الماضي، أصدر كتباً وألقى محاضرات، وتزوج الشاعرة الأميركية جوي ديفيد مان  في العام 1956، لكن سعادته لم تكتمل، إذ توفت زوجته فلحقها بعد ثلاث سنوات. هذه الأحداث التي تتمحور حول أزمة هذا العقل الجميل، وتردده في إعلان إيمانه بعد رحلة طويلة من الإلحاد، قدمها ستون في واحد من أمتع الأساليب السردية، معتمداً على الممثل والمخرج السينمائي والمسرحي من أصل بنمي ماكلي وأدائه الساحر، كراوٍ عليم مشارك، تحمل أعباء الفيلم بخفة روح وجسد، وهذا أمر له ما يبرره، إذا ما عرفنا أن هذا الممثل، هو أصلاً من المتدينين ولديه فرقة تنتج مسرحاً وأفلاماً "من منظور مسيحي" ووظف الكثير من كتابات لويس في أعماله.
يفتتح ستون فيلمه بمشاهد التحضيرات لتصوير لويس في الاستوديو، فنراه يتخذ مقعده أمام الكاميرا، ليسرد حكايته الشيقة. كاميرا رشيقة وإيقاع متسارع، نتابع ما يقوله لويس عن أسئلته المشاكسة، وأجوبته المحيرة. يحكي عن طفولته، وعن أبيه وشخصيته الإشكالية، وموت أمه ونكوصه، والتربية الصارمة لأب لا يعرف كيف يتمتع بالحياة، بعدها يدخل متحفاً طبيعياً، وهو يتحدث عن جدوى الوجود ومبرره، ويحاول أن يجترح حججاً، لإثبات وجهة نظره النافية لوجود مدبر لهذا الكون.
 بمتعة بصرية وبلا ملل، يأخذنا الراوي إلى موقع الحدث، أحياناً يتأمل نقاشاً مع صديقه وزميله جيه آرتكين مؤلف " سيد الخواتم"(جسده توم جلينيستر)، أو ينقلنا إلى  ذكريات الحرب وأهوالها. أحياناً يسترجع علاقته بزملائه وحواراتهم التي خففت من حدة أفكاره، ثم ينتقل بنا إلى  الأيام التي غمر فيها قلبه الإيمان، ودخوله الكنيسة وإتمامه الشعائر ليعود إلى الحاضر ثانية، فيتهافت عليه الفنيون ومخرج العمل مهنئين. هذا الأسلوب الذي يعتمد على الديالوج، والشخصية الواحدة التي تروي، هو أقرب إلى تقنيات المسرح، إلا أن ستون وظفها ليضفي عذوبة وتشويقاً لسرده السينمائي.