سالم الدباغ.. خُلاصة التجريد

ثقافة 2024/09/03
...

 مرتضى الجصاني 


 تمتاز الفترة الستينيَّة في التشكيل العراقي بثراء تجربتها وتجديد موضوعاتها، التي حاولت بشكلٍ ما أن تتخلص من سطوة جيل الروّاد وهيمنتهم الفنيَّة والأبويَّة أيضاً، واتخذت اتجاهات مختلفة للخلاص من هذه السطوة، تارة على شكل جماعات فنيَّة جديدة تبنت رؤى حداثويَّة، وتارة أخرى على شكل جنوح لأعمال متأثرة بمدارس غربيَّة، والجماعات الأخيرة هي استمرار لمحاولات توظيف التراث في العمل الفني، أو تفكيك ثنائيَّة التراث والمعاصرة بشكل يتناغم مع متطلبات تلك الفترة، وهي محاولات لا تعتمد على التوظيف الشكلاني في اللوحة، الذي كان المادة الأساسية في أعمال جيل الرواد، بل يظهر هذا التوظيف بأشكال حسيَّة في أعمال جيل الستينات، مرّة على شكل حروفي، وأخرى على موضوع اللوحة ذاتها من دون أن يظهر ذلك بشكل صريح على القماش، وغالباً هو نوع من أنواع التجريد الفني، لكن جرأة الفنان تبقى مقيدة، خوفاً من السقوط في التفذلك الفلسفي، الذي قد يصل إلى سخرية المتلقي من العمل 

الفني. 

هذا الهاجس كان يراود أغلب فناني تلك الحقبة، ما جعلهم يظهرون بخلطات فنيَّة، بين الواقعي، والسوريالي، والحروفي، والتجريدي أحياناً، إلا أنَّ سالم الدبّاغ انفرد بتجربة لا تشبه أحداً غيره، رغم أنّه عاشها بعزلته التي يفضلها، إلا أنه تمكن من أن يعبّر عن الصمت وأجزاء صغيرة لا يمكن مشاهدتها بالعين

المألوفة. 

لقد اختار الدباغ طريقاً مختلفاً صنعه بكثير من التأمل. هذا التأمل دفعه للتعبير الاختزالي في العمل الفني، الذي يُطلق عليه (Reductionism)  وهو اتجاه وموقف فني وفلسفي في تبسيط الأشياء المعقدة إلى أساسيات، واختزال العناصر إلى مفاهيم فلسفيَّة تقشفيَّة معبرة بشكل 

أكبر. 

هذا الاتجاه ربما لم يكن مقصوداً من الفنان لكن أعماله تعضد هذا المعنى في كل مرة، رغم أنّه لا يصنع موضوعات جديدة أو ألواناً جديدة، إلا أنّه يتحكّم بطريقة تقنية عالية بتدرجات الأسود، اللون الذي يفضّله، في كل مرة يخرج بعمل مختلف لا يشعرك بالملل البصري أو الإحساس بالتكرار أو الإرهاق الجمالي، فضلا عن اللون الأبيض، يمكن أن تعكس لوحات سالم الدبّاغ لوناً حسيّاً بين الأبيض والأسود وهو شيءٌ أشبه بالضوء المنبعث من سطح اللوحة، ضوء صنعه التداخل اللوني بتدرّجاته، لا يخلو من بعد روحاني تأمّلي، وإذا تفحّصنا أعمال الدباغ وجدناها تخلو من المخلوقات التي يزجّها الآخرون بغية وضع لمسة شخصية لصنع شكل أيقوني، بل على العكس تتخذ لوحات الدباغ من التجريد سمة أساسية تجعل من 

اللوحة عملاً أنيقاً بعيداً عن الحشو

الزائد. 

يقتطع الدباغ تفاصيل من الحياة، ويركز عليها بعمل (زوم) على جزيئاتها لتبدو أشبه بعرائش الشَعر في البيوت البدويَّة مثلا، تكمن أهمية ما قدّمه سالم الدبّاغ أنّه سبق فني، تجاوز زمنه بسنوات، على شكل تهذيب اللوحة من الحشو والتكلّف الفني والزوائد الملطخة، رغم أنَّ أعمال الدبّاغ تميل بشكل واضح إلى النزعة الگرافيكيَّة، لأنّه دراسته المعمّقة للحفر الطباعي، تتفرّد أعمال الدبّاغ بتقنية عالية، ربما شكلت هذه التقنية الثيمة الفنيَّة لأعماله. 

من هنا يمكننا أن نقول، أن تنويع الدبّاغ على ثيمة تقنيَّة لم يجعله فنان اللوحة الواحدة، من ثمَّ هو ينوّع على التقنية، وليس على أشكال فنية داخل اللوحة، علينا أن نعترف أن أعمال سالم الدبّاغ بحاجة إلى عين متمرّسة بصريّاً، ومثقفة فنيّاً، لتذوق جوهر العمل الفني المتقشّف من البهرجة والفوضى، أعمالٌ مثل أعمال الدباغ لا شك لم تأخذ حقها من الأضواء، غير أنّها تمنح المتلقي درساً في التذوق الفني، والكف عن السؤال الذي لا ينتهي (ماذا تعني هذه 

اللوحة؟). 

هذه الأعمال يمكن أن نشعر بطاقتها اللونيَّة العالية، حيث تتسم الأعمال ذات الطابع الگرافيكي بسكون اللون على سطح اللوحة، الذي ينتظر ضربة فرشاة لينفجر التعبير، للوصول إلى أعمق نقطة من الجوهر الجمالي، وهو ما نجده دائماً في أعمال الدباغ على شكل لون أحمر أو أزرق، تؤدي هذه الألوان مهمة مرسومة لها سلفاً، يمكن أن يكون هذا كله له علاقة بتكوين الفنان نفسه، حيث ولد الدبّاغ في الموصل عام 1941. 

وما بين عامي 1958 و 1965 درس الرسم في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. في سنة تخرجه شارك في المعرض الأول لجماعة المجددين التي كان عضواً مؤسساً فيها وشارك في معارضها اللاحقة. عام 1966 حصل على دبلوم شرف من معرض لايبزغ الدولي لفن الحفر الطباعي.

ما بين عامي 1967 و1970 حصل على زمالة دراسيَّة من مؤسسة كولبنكيان لدراسة فن الحفر الطباعي في لشبونة. أقام معرضه الشخصي الأول خارج العراق في غاليري "سلطان" بالكويت وذلك في عام 1972. ما بين عامي 1971 و 2000 قام بتدريس مادة الحفر الطباعي في معهد الفنون الجميلة. توفي 

عام 2022.