نوزاد حسن
لو سألنا قارئاً متوسط الثقافة عن مرجعية أو مصادر السياب الشعرية فسيقول بلا تردد: إن للسياب مصادر كثيرة أثرت في شعره أهمها الشعر الإنكليزي, وأساطير وادي الرافدين, وإليوت, وغير ذلك. وبيان هذه المرجعية التي تاثر بها السياب يعني أن النقد بحث في شعره, و وصل إلى مثل هذا الراي النقدي الذي اطلع عليه قارئ ذو ثقافة متوسطة. لكن الأمر يختلف حين نتحدث عن الرواية, ويدعونا للتوقف عنده. ذلك لأننا لو سألنا القارئ نفسه عن مرجعية فلان من الروائيين العرب أو العراقيين فلن يستطيع الإجابة. سيحتار هذا القارئ الذي كشف لنا مرجعية السياب ومصادره وسيفشل لأنه يعرف أنه يقرأ رواية من الروايات لكنه لا يعرف بمن تأثر كاتبها,ومدى تقليد هذا الكاتب لروائي غربي أو لمجموعة من الكتاب الذين يقرأ لهم باستمرار بحيث يألف الأسلوب الذي يكتبون به. وفي هذه الحالة تحدث عملية تأثر واضحة, وأحياناً عملية تقليد نادراً ما ينتبه القراء لها. ومن هنا تختفي مرجعية الروائي تماماً, وهنا نجد أنفسنا نتعامل مع رواية منفصلة عن تاريخ الرواية كله,وكأننا أمام رواية كتبت ولم يكتب غيرها أبداً.
إذن نحن أمام كاتب روائي لا نعرف مصادره أو مرجعيته.كاتب يقدم لنا نفسه على أنه بنى عالماً سرديّاً خاصاً به. إنه أعني كاتب الرواية هو إله يقوم بخلق أبطال ثم يقوم بقتلهم على حد تعبير كاتبة روائية تحدثت في قناة فضائية بفخر واضح عن عملية كتابة الرواية.لنقف قليلاً عند هذا الإله الروائي الذي يخلق ويميت.ولنطرح هذا السؤال:كيف تكونت قناعة الروائي بأنه يقوم بعملية خلق وكأنه أول من كتب رواية أو قصة. ألا يشعرنا حديث هذه الروائية بأن الكتابة كفعل إبداعي لا يمكن أن تكون ناضجة دون قراءة ودراسة نماذج مختلفة من الروايات وعلى مدى قرون. إذن ما هو موقفنا كقراء ونحن نريد أن نقرأ عملاً إبداعياً يقول كاتبه إنه رواية؟هل اكتفي بما تحت يدي وألغي تاريخ الرواية الغربية كله معتبراً أن الرواية الفلانية العراقية أو العربية هي منجز كامل لا علاقة له بما قبله. يبدو أن التعامل النقدي يمضي في هذا الاتجاه, أعني أن الحكم على الرواية أية رواية ينطلق من مبرر واحد هو أن هذه الرواية نسيج وحدها, وأنها إضافة تاريخية لا بد من امتداحها, والإشادة بكاتبها.
لا بد على أية حال من تغيير وجهة نظر من يقول بأن الروائي إله يخلق أبطاله ثم يميتهم حين يشاء إلى وجهة نظر أخرى أكثر دقة وتنسجم مع النقد الذي لم يعد يقبل بنقل مصطلحات علم السرد وتطبيقها على الرواية بشكل يكاد يكون تقليدياً وسطحياً أيضاً. لا بد أن يكون النقد فرعاً مستقلاً بحيث لا يستورد مصطلحاته ويطبقها بحرفية على النص.هذه العملية أصبحت بلا جدوى.على الناقد أن يبحث في مصادر الروائيين,وعلى النقد ألا يخاف من إطلاق أحكامه على أي عمل روائي لمعرفة أصالته من عدم أصالته. في الواقع سأكتفي كي لا أطيل بالتوقف قليلاً مع وجهة نظر نقدية مهمة جداً تعيننا في تبرير ما قلته قبل قليل. إن ناقداً مهماً مثل إدوارد سعيد أقرَّ بأن الرواية فن غربي تعود" رجوعاً إلى الأوديسا , ودون كيخوتي لكنها تركزت أساساً في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وجزءٍ من القرن العشرين.(1)
يقرر ادوارد سعيد هنا حقيقة معروفة للجميع, ثم يطرح سؤالاً جوهرياً عن الروايات التي تكتب في غير الفضاء الأوروبي أو الأمريكي كيف يمكن الحديث عنها.يقول"فهل هذه الروايات أشكال من المحاكاة(مما يعني بعبارة فجَّة, أنها نسخ كولونيالية من التقليد العظيم؟هل هي أعمال أصيلة بحد ذاتها؟ أم أنها ليست هذه ولا تلك؟(2)
الأمر يبدو محيراً باعتراف الناقد الكبير.لكنه يجعلنا نقف لنتأمل جيداً واقع الرواية عندنا. إن أسئلة سعيد تفتح باباً واسعاً لقراءات مختلفة عن القراءة السائدة المتمثلة بالقراءة البنيوية أو القراءة السردية التي تبتعد كثيراً عن فحوى ومضامين الأسئلة التي استشهدت بها لناقد الاستشراق الكبير.
هناك أيضاً ملاحظة أخرى مهمة أشار إليها ادوارد سعيد تتعلق بالموروث الثقافي العربي كله الذي يضم تنوعاً واضحاً "قصة سيرة حديث خرافة أسطورة خبراً نادراً مقامة ,لا بد أن أياً منها قد أصبح كما فعلت الرواية الأوروبية هو النمط السردي الرئيس"(3)
تدعم هذه الملاحظة النقدية ما قاله ادوارد سعيد سابقاً من أن الرواية هي فن غربي بامتياز . ثم ينتقل سعيد إلى البحث عن تفسير مقنع لعمل نجيب محفوظ الروائي فيلاحظ أن هناك عوامل متعددة من بينها بنية المجتمع, وعدم تهدم كيان المجتمع المصري المدني بل بقي المصريون محافظين على حياتهم المدنية(3). ولعل هذا ما يدعونا إلى التساؤل عن سبب حديث ادوارد سعيد عن استقرار المجتمع في مصر التي كان نجيب محفوظ كاتبها الأهم والأكثر عمقاً . ألا يحاول سعيد هنا تقديم صورة قريبة جداً من ظرف ولادة الرواية في الغرب. إن استقرار أي مجتمع,وظهور الطبقة البرجوازية,وانتشار التعليم,والترجمة سيكون في النهاية عاملاً مهماً في خلق ثقافة ناضجة لها طابع محلي ذو صبغة عالمية في نهاية المطاف.وهذا ما ساعد محفوظ بالإضافة إلى عوامل أخرى مهمة أيضاً في مسيرته.
ما يهمني هنا في الواقع هو التوقف عند ملاحظات ادوارد سعيد التي تسعى تنبيهنا إلى مسألة جوهرية تتعلق بمدى أصالة العمل الروائي.ولم يجازف سعيد بإطلاق أحكام عامة عن الرواية العربية لكنه تحدث عن أسماء محددة,وناقش كاتبين عربيين عارضاً ملامح بعض أعمالهما.
في الواقع لا أودُّ الاقتباس أكثر من ادوارد سعيد لكني حاولت أن أبين كيف أن الرواية فن لا يمكن قراءته ونقده دون الإشارة إلى مصادر ومرجعية الروائي. هذه النقطة مهمة جداً, وهي تقودنا إلى التساؤل عن قضايا كثيرة تتعلق بالعمل الروائي مثل مسألة التقنية الروائية,ولغة العمل,والخيال,وهموم الروائي,وغير هذه القضايا التي نادراً ما تبحث باستثناء التقنية التي يركز النقد المتسرع على إضاءتها والحديث عنها باطالة .
إذن هل نحن أمام مهمة نقدية أكثر واقعية تبحث عن مفهوم الأصالة الروائية قبل كل شيء؟ثم هل نحن أمام عمل نقدي يسعى لتحديد ما يمكن تسميته بالوعي الروائي بالعالم.؟ أظن أن على الناقد أن ألا يهمل ملاحظات ادوارد سعيد بصدد الأصالة, وعدم الأصالة. ولعلي أعود لطرح بعض الجزئيات المتعلقة بطريقة فهمي لكيفية تحديد أهمية هذه الرواية من تلك.
+++++++++++++++
1 -ادوارد سعيد,تأملات حول المنفى,ترجمة ثائر ديب,دار الآداب,بيروت,طبعة ثانية 2007ص55.
2 - مصدر سابق ص55
3 - مصدر سابق ص59