ليس كلُّ ما يغنى أغنية ولا كلُّ ما يحكى قصة

ثقافة 2024/09/03
...

  مآب عامر 

"لقد خلق الشاعر قبل خلق العالم بمئة عام".  مقولة من كتاب "بلدي" لرسول حمزاتوف، يعد "بلدي" رواية ملحمية لسيرة أدبية، ترجمة عبد المعين الملوحي- يوسف الحلاق، النسخة التي وقعت بين يدي هي الطبعة الثانية الصادرة في العام 1984، عن دار الجماهير العربية.  ارتأيت الغوص في أعماق الكتاب الذي يتألف من جزأين في مجلد واحد، واخترت الحديث هنا عن الجزء الأول الذي جاء في 12 باباً.

من المؤكد أن لكل أديب أو شاعر خصوصيته ونظرته التي تميزه، وكذلك عواطفه تجاه إبداعه وبلده ولغته. وهذا الأمر هو الذي استفز رسول لإنتاج هذا الكتاب، الذي بت أعده من أحد الأسس الرئيسة في بناء الأديب. حمزاتوف يرى بلده وذاته بطريقة أكثر عمقاً من محرر صحيفة سطحي، طلب منه ذات مرة الكتابة عن منطقته عبر عشر 

صفحات. 

ومن هنا خُلق "بلدي" الذي يحمل جمالية الشاعر وإبداعه، حيث المزاوجة بين مبادئ الكاتب والشاعر، والطقوس الشعبية داخل داغستان، والحياة الجبلية في تسادا، إضافة إلى تجاربه الشخصية. 

ما يبهر في الكتاب يكمن في كمية الأمثلة الشعبية، وذاك الخزين العميق الذي يحمله رسول لطقوس بلاده وتقديسه لها - أو هكذا بدا لي- في بعض اقتباساته شعرت بكراهية تجاهه وبالحنق منه، وهو يحدثني كشاعر بكل صلابة وصدق، فيُسقط أمثاله على واقع شعبي شديدة اللهجة، وبذلك يضعني في مكان المتأمل له والمتسائل: هل أنا اعْتَدّ بنفسي 

أم لا؟. 

وبهذا عرفتُ أن الشاعر يستقي واقعاً من قريته ويشكله بكل حرية ويسقطه على الكتب والشعر والفن، بينما يحدثني عن مبادئ نشأ عليها يحملها بداخله أينما ذهب، كما الأغاني الشعبية التي يحبذ نقلها إلى الآخرين من الشعوب مقابل الاستماع إلى أغاني الشعوب المختلفة. 

يقول إن "الإنسان الذي يقرر كتابة الشعر وهو لا يعرف اللغة، كالمجنون الذي يقفز إلى نهر جارف وهو لا يعرف السباحة". من هذه الجملة البسيطة والمستفزة يؤكد ما تربينا عليه، وما نفتقده اليوم.. تربينا على اتقان لغتنا التي بدا اتقانها واستيعابها من الأمور الثانوية. اللغة الأم، مقابل تبني اللغات الغربية، أو حتى عدم اتقان أية لغة أخرى، وهو يستفزك من جانب آخر بمثال يطرحه عن تجربة صديق والده في "ص ٥٨" حين دار حديث بينه وبين إنكليزي يتقن الأول لغات عدة، وحاول التواصل بمجموعة لغات مغايرة مع الآخر، رغم ذلك لم يجد أحدهما الآخر مثقفاً أو واعياً، لأنهما لم يتوصلا إلى لغة مشتركة، وبذلك يبين أن اللغة هي ثقافة الشعوب. 

ويرى صاحب رسول أنه تحدث مع الإنكليزي بأكثر من لغة، لكنه لم يفهمه، كما يقول أبو طالب "لغات الشعوب بالنسبة لي، كما النجوم في السماء لا أود أن تذوب النجوم كلها في نجم واحد ضخم يغطي نصف 

السماء". 

حقيقة إتقان لغتك الأم هو فخرك عبر نقلها لباقي الشعوب، وإتقان لغات الشعوب هو إتقان ثقافاتها. هنا ينشأ الوعي الإنساني لدى الشاعر، لأن الاكتفاء بالوعي القومي أو الوعي الخاص غير كافٍ للمثقف والشاعر.

الموضوع من وجهة نظر رسول لا يختلف هنا مع نظرية تشيخوف حين أشار إلى منفضة التبغ.. وقال هذه قصة. ابن حمزاتوف يرى أن من يبحث عن موضوع هو أشبه بشاب يريد أن يتزوج، لكن المصيبة أنه لا يعرف تلك التي يريد أن يتزوجها، ليس هناك فتاة معينة ولا يعرف إلى من يبعث بالخاطبين، "كما ينظر ابن حمزاتوف إلى الموضوع بلا تعصب، وهو بعيد عن ضيق الأفق، فلكل موضوع 

قدسيته". 

يوحي إليّ ابن حمزاتوف أنه من الكتاب الذين يتركون أرواحهم تطفو مع أقلامهم، بينما يخلق لنا جدلية عميقة كما هي الحياة الداغستانية، لأن رفض الموضوع يعود إلى رفض شخصي أكثر من كونه رفضاً للتوجه، كما أن "أهمية الموضوع هي قضية، وأهميته من أهميتها" فضلاً عن نظرة المؤلف ومساحة التأثير بها. 

قد تجد أيضاً في أيامنا هذه أمراً أشار إليه رسول في "ص 91 " يقول بعد جملة يحدث هكذا "كأني بالشعراء في أحيان كثيرة لا يخلقون فناً، بل يشتركون في سباق خيل، إنهم مستعدون أن يسوطوا الجواد حتى يدمى في سبيل أن يطوقوا رقبته بشارة الفوز لمدى خمس دقائق". 

حقيقةً إن من أكثر السباقات التنافسية في الأدب هي سباقات الشعراء. عندما أقرأ للأدباء الروس شعراء كانوا أو روائيين تتملكني تساؤلات: هل يعيشون معنا اليوم، ويكتبون بكل صدق عن أحداث تجري الآن، أم إنهم سبقوا أزمنتهم لا أكثر ولا أقل، أم إننا لا نزال نعيش معهم في تلك الأزمنة؟.

ما يميز الكتاب هو تلاعب حمزاتوف عبر سرد قصة "ص100" تدين "المقلد والمقتبس"، من دون علم أو فهم، كما الببغاء. وهذا هو ما يؤدي به إلى الهاوية. 

أحياناً تذكرني سطوره بطريقة الحكواتي وأسلوبه بتقديم النصح بشكل غير مباشر، ولكنها توصب الهدف. 


لا أصرخ هذه طريقتي في الكلام

أما عن النوع، وهل النشأة هي من تحدد "ترنيمة المهد" و مرويات قصص الطفولة التي ترافقك حتى الصبا، وما هو دورها، وهل توجه إلى الشعر أو القص والرواية؟ كما في "ص١٠٤": ها أنا ذا أمام الجبل يجب عليّ أن أجتازه، مع حصاني الباسل. استطيع أن أجتاز أصعب الثنايا. الجبل هو موضوعي، الحصان هو لساني. 

يمكنني أن أرى اختيارات حمزاتوف، وبحسب توجهه فإنه يوحي بإيمان مطلق بوجود الدعائم الحقيقية للمبدع، فليس هناك حدود وأعتقد هذا ما خلق كتاب "بلدي". أما عن الأسلوب، فهو سلوك اجتماعي، كما هي الحادثة التي افتتح بها، هذا الباب منها "حوار بين زوجين، لماذا تصرخ فيّ؟ أنا لا أصرخ هذه طريقتي في الكلام". 

فعلاً. نحن نكتب ولكل منا أسلوبه، نحن نبذر البذرة وننتظر أن تخرج عشبة نافعة، كما رسول أو نقلق من أن تكون عشبة 

ضارة. 

هل نعيش صراع رسول مع ولده حمزاتوف حين حاججه على أسلوبه وطريقته في كتابة الشعر وشذب له.. يومها تشبث الابن بمبدأ أنه أسلوبه وطريقته، بينما لقي كلمات أبيه الصاعقة "إنه أصلك وإذا غيرته ستكون مصطنعاً مزخرفاً". 

الجذر الأول وأصوله هو الواجب الحقيقي علينا أن ننقله، وإن اختلفت قضايانا، فالتشبث بالأصل كما الشجرة المعمرة المغروسة بعمق، وإن أحد مهام الكتابة، إحياء الأصل والهوية وتجذيرها من دون زخرفة

وتصنع.  أجد في باب "العبقرية" الموهبة الفطرية التي لا تشترى ولا تباع، وإن لجأت إلى كل طرق السمكة السحرية ستتمكن من منحك كل شيء إلا العبقرية. لأن العبقرية أمر يُخلق داخلك أو يُصنع عبر أيامك وتجاربك، كما في باب "العمل" فلا يكمل العبقرية غير العمل، فنرى جواب رسول "إن صاحب الموهبة القليلة يعد الفن أمراً يسيراً. أما الموهبة الكبيرة فهي تأتي مع الاحساس بالمسؤولية التي تفرضها، والرجل الموهوب حقاً يعد قصائده عملاً عسيراً أو كثير الخطر. ليس كل ما يغنى أغنية، ولا كل ما يحكى قصة.


بابُ "الحقيقة والشجاعة" 

نعلم أن الكتابة والقلم والكلمة هي سلاح الشاعر والكاتب، ولهذا يتناولها رسول ويقارن بأسلوب حكواتي بين الصادق والشجاع والجبان والمزيف المتملق من الشعراء والكتاب، وعلى مر سنواتنا كم خسرنا من شاعر صادق، وكم من قًتل شجاع، رغم ذلك فإن على الشاعر الحقيقي أن يمتلك الشجاعة لنقل الحقيقة من دون زيف. 

لكل كتاب محرره في باب "الشكوك" كما يحدثنا رسول عن محرر الكتب حين اصطدم مع مسرحية والده، واكتشف أن المحرر طبيب بيطري وهو يشير إلى وضع الشخص الصحيح في المكان الصحيح، وكيف يمكن لبيطري أن يحرر مسرحيتي، هل هما بقرتان حتى تحاول أن تداويهما، لماذا لا يقدم الشاعر النصائح أبداً إلى الأطباء البيطريين، في حين يُقدم له النصائح كل من يريد؟  

بينما هو يعطي الثقة لمحرره الحقيقي ويطلب منه التحقق من كل نقطة وعلامة تعجب، خلف كل مؤلف مبدع هناك محرر حقيقي من وراء الكواليس لا يعلم عنه أحد، ولكنه المبدع بفنه وهو الدقة بالتحرير.