أحمد عبد الحسين
ما لا يقال، ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه وما لا يقع تحت فهمٍ أو إدراكٍ لأنّ الكلام عاجز عن نقله، وما يمتلئ به العقل أو القلب أو الوجدان لكنْ لا سبيل إلى إيصاله كاملاً. كلّ ذلك محنة مَنْ لديه حقيقة أكبر من وعاء اللغة كالأنبياء والفلاسفة لكنّه في الوقت عينه ينبوع الشعراء.
محنة موسى كليم الله الذي يضيق صدره بحقائقه فلا ينطلق لسانه لأنّ الأمر أكبر من أن تحتمله الألسنة “ويضيق صدري ولا ينطلق لساني”. ومع أن تفسير أهل الظاهر يقول إن صدر النبي يضيق بتكذيب قومه، أو أنّ موسى يعاني حبسة في كلامه، إلاّ أنّ من خبر امتحان أهل الحقائق مع اللغة وشؤونها يعرف أنّ الحقيقة الإلهية تفيض على كأس اللغة الضيّقة، وأنّ الفاعل “الله” واسع عليم لكن القابل “الإنسان” فقير ضئيل.
الحقائق الإلهية تتنزّل، والأمر تنزيل لأنّها تكون على قدرنا ونحن في أسفل ممكنات الفهم والتعبير. والآية “إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون” تامّة الدلالة على ذلك: تنزيل من أعلى لأسفل، وتخصيص لغة بعينها، وبيان أنّ علة التنزُّل هي التعقّل. لأنّنا لا نتعقّل ولا نفهم إلا ما في وسعنا. أما الحقيقة كما هي لا كما تقال فقد بُيّنت في الآية التي تليها مباشرة “وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم” .
ما لا يقال هو امتحان الأنبياء لكنه أيضاً امتحان كلّ صاحب حقّ جوهريّ لا يبقى على حاله من الصفاء والقوّة إذا تخلل اللغة. ألم يقل العرفاء إن الحرف تحريف، وإن الكلمة عاجزة عن أن تخبر عن نفسها فكيف تخبر عن سواها، وإن الحرف حيث ينصرف فجيم الجنّة هو جيم الجحيم.
وما لا يقال ينتهي عند الفلاسفة إلى الصمت. كتب فيتغنشتاين “ما لا يستطاع التعبير عنه ينبغي أن يصمت عنه”. لكنّ هذه المحنة النبويّة عينها هي ينبوع الشعراء ومَن في حكمهم ممن يتوازن لديهم الحقّ بالجمال من المتألهين والعرفاء. كتب النفريّ: “إنْ لم تشهد ما لا ينقال تشتّتَ بما ينقال” .
ما يضيق به الصدر فلا تسعفه اللغة يصبح طاقة محرضة على جعل اللغة احتفالاً والكلامِ مهرجانَ كشوف واللسانِ بيتاً للذائذ، ففي آخر الأمر لا يصدر الشاعر “أو العارف” عن فكرة أو مفهوم واضحين بل عن هذه السحابة من الغموض، لا يسكن الشاعر النور ولا الظلمة بل بين بين، في الحيز الذي تتكاثر فيه الظلال.
يستمدّ القول الشعري قوّته مما تضيق به الصدور والعقول، فيصبح ما لا يعبّر عنه مادة كل تعبير ممكن.
ما لا يقال هو صمت الفلاسفة وحيرة الأنبياء لكنه ربيع الشعراء.