هل نحتاج لتعتيق نتاجنا الأدبي وصولاً إلى الاكتمال؟

ثقافة 2024/09/04
...

صفاء ذياب

يُروى أنَّ الشاعرة الروسية أنَّا إخماتوفا كانت تُسرع- بعد إنجاز كتابها- بإرسال الكتاب إلى الناشر، فقد تورّطت في أكثر من مرّة بعدم قناعتها بطباعة كتبها بسبب مراجعاتها العديدة وتغيير نصوص كتابها مرّة بعد أخرى، بل إنَّها تلغي ما كتب قبل إرسال الكتاب للناشر.. ولهذا قرّرت أنَّها بمجرد إعداد الكتاب يطبع مباشرةً.
في حين بقي أستورياس يراجع روايته (السيّد الرئيس) أكثر من عشرين عاماً حتى قرر طباعتها، وكانت هذه الرواية- فضلاً عن أعماله الأخرى- سبباً لنيله جائزة نوبل للآداب في العام 1967.

وما بين تجربة إخماتوفا وأستورياس يعيش ملايين الكتّاب في عالم متخبّط، بين النشر سريعاً والتمهّل، بحثاً عن الكتاب المكتمل... وربّما لا يوجد كتاب مكتمل في الأحوال كلّها، غير أنَّ الكاتب عليه أن يعيش مراحل السعي للكمال... وفي ظلِّ هذا يرى العديد من النقّاد أنَّ أغلب الكتّاب العراقيين غير صبورين، فالكاتب العراقي يريد ثمناً فورياً لنتاجه، والثمن هو نشره سريعاً ورؤية تفاعل الناس معه. مع أنّ كتاباً عالميين كثيرين خبَّؤوا نتاجهم مطولاً قبل أن يطلقوه معولين على الثمن الآجل والتأثير اللاحق الذي هو أدوم. فماذا لو عمد الكاتب إلى تعتيق نتاجه وتخبئته، فلربَّما ستكون له رؤية أخرى تجعله أنضج، وتشكّل له قرّاء آخرين ربَّما يكونون أكثر وعياً؟ وهنا: كيف نقرأ هذه الثنائية: النشر السريع مقابل إعادة القراءة مرَّات عدة؟.
آثار عميقة
يكشف القاص والمترجم الدكتور علي عبد الأمير صالح عن أنَّ من حقِّ الكاتب أو المؤلف أن يحظى بالشهرة، والجاه، والمجد، غير أنَّ الجري واللهاث وراءها من دون انضباط وتأنٍ وإعادة التفكير والتأمل، والتبصّر، والتذكّر، قد يلحق الضرر الفادح بالموضوع أو بالكتاب الذي نؤلّفه أو بالهدف الذي نسعى إليه. علينا ألَّا نستعجل الكتابة أو التأليف كي ندفع الكتاب دفعاً من رحم الصمت. لأنَّنا لا نرسم الشخصيات ونصف الأحداث التي خبرناها، أو خبرها أبطال رواياتنا فقط، بل نجسّد ما تركته هذه الأحداث في أنفسنا، أو أنفسها، من آثار عميقة بثّت في خيالنا، أو أخيلتها، وأحلامنا وأحلامها، يقظةً شاملة؛ آثار نُقِشت على صفحات قلوبنا وقلوبها وغيّرت فينا طبائعنا، وطرائق تفكيرنا، ونظرتنا للحياة والوجود والموت والحرية؛ ذلك أنَّنا أدركنا، على مدى سنوات طوال، أنَّ ظلمة الكابوس نفسه لا تخلو أحياناً من بارقة أمل، وينتابنا إحساسٌ عميق بأنَّنا سننجو من الشر، والحرب، والإبادة، والظلم، ولا بدَّ من أن يجود علينا الدهر بمثل هذا الأمل. غير أنَّ ذلك لن يتحقق من دون أن نكافح كي نستمد العزيمة من الطبيعة حيناً، ومن العلم حيناً آخر، ومن الفن تارةً أخرى، ولا بدَّ للقلب البشري من أن يستيقظ في كلِّ مرّة، وأن يتجدّد العقل في كلِّ حين، لأنَّ نفوسنا تمتلئ بمرارة التجارب الحياتية التي خلّفتها الأعوام الفائتة، ومن شأن هذه التجارب التي عاصرناها، أو عاصرها أبناء جيلنا، أن تجدّد وعينا، وتوقظ فينا أعمق الأحاسيس، وأكثرها نبلاً، وتثير فينا قدراً هائلاً من الطاقة تحفزنا كي نؤمّن عالماً أفضل لأطفالنا، وللأجيال القادمة. وليس من الحكمة أن نتجاهل هذه التجارب، أو نغفلها، أو نتناساها، ومن حقّنا أن ننتفض، ونثور، ونمتلئ حياةً وحماسةً، كي ينبجس العقل وتنطلق قوى النفس المكبوتة طامحةً إلى حياةٍ مفعمة بالعواطف والأحاسيس، دافعةً إلى الكفاح والأمل، وهكذا تتجدّد حياة المرء وتتوثّق صلاته مع الآخرين ويعتنق آمالهم وآلامهم، وكي ننجز هذا لا بدَّ للكاتب من أن يتعلّم فن الصبر والانتظار كي يستوعب تفاصيل المراحل المرعبة التي مرّت وتمر بها البشرية، وبمرور الزمن سوف يُدرك أنَّها مراحل زائلة ولا ضرورة لأن يخافها، ولا مفرّ من أن يأتي يومٌ يكفُّ فيه العالم عن الخروج عن السيطرة، ويتناقص فيه عدد الأبرياء الذين يموتون في جهات العالم الأربع، وتقل الأعمال الوحشية التي يرتكبها البشر بعضهم بحقِّ بعضهم الآخر.
الموضوع مسبباً
ويرى الناقد الدكتور عبد العظيم السلطاني، أنَّ ما يحرّك النشر الفوري والثمن الفوري من خلال تفاعل الجمهور، مزاج أفرزه عصرنا الذي يعجُّ بضروب وسائل التواصل والسيولة التي يحقّقها للناس في كلِّ شيء، فهناك فرق بين النصوص القصيرة والنصوص الطويلة كالكتب مثلاً، ولعلَّ تأخير نشر النصوص القصيرة لن ينفع النص، لأنّه قصير ليس بحاجة إلى زمن طويل بعد الكتابة، لتأمّله واختبار صحّته.
ويوضّح السلطاني أنّه من جهة علاقة النصوص بالحدث الذي تتناوله، لا تكون النصوص على خطٍّ واحد في درجة استجابتها للتعتيق والصبر عليها قبل النشر، فثمّة نصوص لابدّ من أن تُنشر في حينها، لأنَّها تعالج موضوعاً آنياً قد يموت مع التقادم، لذا من الحكمة أن ينشر الكاتب نصّه (سواء أكان قصيراً أم طويلاً كالكتاب) متزامناً مع الحدث، فانطفاء الحدث يؤدّي إلى التقليل من أهمّية الكتاب حين يُنشر لاحقاً. وثمّة كتب مرتبطة بكتب نُشرت، وهنا أيضاً يكون تأخير نشر الكتاب اللاحق ليس من صالح الكتاب، لأنَّ فائدة تأخير نشر الكتاب لغرض التعتيق في هذه الحالة أقل من فائدته من نشره متوهجاً من خلال ارتباطه بالحدث.
ومن جهة نوع النصوص فنيّاً، ثمّة كتب قد ينفع معها التعتيق لمدّة معقولة قبل النشر، كالكتب الإبداعية لاسيّما الرواية، أو الكتب الفكرية التي تعالج موضوعات غير آنية، فهي بحاجة إلى مزيد من التأمّل، كي تنضج على نار زمن هادئ. لكنَّ المشكلة أنّ النصوص التي ترتبط بذات الكاتب ارتباطاً روحياً هي التي عبّرت عن الذات في لحظتها، وتأخير نشرها قد يغري الكاتب بالحذف في بعض المواضع أو التغيير في النص بما يفقده بعض حرارة الصدق وبريق التماسك. فقد يؤدّي التغيير إلى تذبذب في الأسلوب، وقد يكون التغيير مؤدّياً إلى التناقض من دون أن يشعر به الكاتب، لاسيّما حين يعود إلى نصّه بعد طول زمن.
تنمية الحس النقدي
وبحسب الفنان التشكيلي والكاتب هاشم تايه، فإنَّ تجارب إنتاج الآثار الفنيّة أثبتت حقيقة أنَّ جريانها- بعيداً عن الأضواء- في سيرورة زمنيّة ملائمة تعيشها في ظلال مُنتجيها قبل إشهارها، وتكفل لها الحياة، والولادة بأعضاء مكتملة، سليمة تُمكّنها من الثّبات، والرّسوخ على أرض الآثار الفنيّة الباهرة السّابقة، أثبتتْ، تلك التجارب، ضرورة أن يتأنَّى الكاتب/ الفنّان قبل إخراج أيّ أثرٍ له إلى العلن، وأنّ عليه أن يضع ما يتخلّق لديه تحت اختبار الزّمن، وعلى مدار عملية نُضج الأدوات، وتكامل الخبرات، وبالمقارنة، أخيراً، مع رفعة مستويات ما تمّ إنتاجه من قبل آخرين في مجاله الفنيّ. وسيكون بالغ الأهمية من أجل الاطمئنان إلى بلوغ الأثر الفنيّ درجة الكمال المتوخّاة في شكله، ومحتواه، أن يضعَهُ منتجُهُ إلى جانبه في مستطيلٍ زمنيّ مديد للصّيرورة الحيّة، يمكن معها إجراء جراحات متفاوتة مع الأوقات لأعضائه كلّما جرى اكتشاف خللٍ فيها. تلك حقيقة مُسلّمٌ بها؛ فالكثير من أعمال الأدب والفن التي أُنتجها أصحابها في مقتبل تجاربهم، ونشروها مُتسرّعين، يودّون، اليوم، لو مزّقوها أرباً، في ضوء ما بلغوه من نضجٍ فنيّ هم عليه الآن. ذلك يُظهر الحاجة إلى أن يقوم الكاتب/ الفنّان بتنمية الحسّ النّقدي في شخصيته، من أجل تقويم آثاره قبل إشهارها، وأن يكون متطلّباً على الدّوام، ولا يعجبُهُ العجب. مع هذا لا بدّ من الاعتراف بأنَّ كُتّاباً وفنّانين أنتجوا آثاراً باهرة دفعةً واحدة في تجاربهم المُبكّرة؛ بامتلاكهم قدرات استثنائيّة فائقة. لا بدّ من الاعتراف، أيضاً، بأنَّ تعليق الأثر الفنيّ طويلاً، بوضعه في الاستئناف المديد لتخليقه مرةً بعد مرّة، قد يُفسده.
القارئ الفعّال
من جهته، يبيّن القاص الدكتور كامل فرعون، أنَّ عوامل كثيرة تعتمل في نفس الكاتب تدفعه لنشر ما ينتجه، وبالسرعة التي قد تنعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل تجربته، إذ يتحقّق بها الوجود الفعلي للنص وتكتمل عناصر العملية الإبداعية، بوصوله للقارئ، لا أقصد القارئ العادي، بل الفعّال الذي يعيد إنتاج العمل، ويمنحه مستويات من الفهم والتأويل. فالتأنّي في النشر، بتقديري، عامل إيجابي يترك أثره في النص والمتلقي، من دون أن يتحوّل إلى حالة تأخّر مُفرطة يفقد فيها النص حضوره واستمراره، ما عدا بعض التجارب التي تشكل استثناءً من القاعدة. أمَّا السرعة في النشر فهي صفة تلازم البدايات، بدافع تأكيد الذات، والسعي وراء الشهرة، لكنَّها عندما تتحوّل إلى مبدأ ثابت تفقد النص وكاتبه الاتّزان والقدرة على إثارة أسئلة من شأنها مباغتة القارئ واستفزازه، ولا أجد التبرير مقنعاً عندما يعزو الأمر إلى التحوّلات في وسائل الاتصال، والرغبة في مسايرة التطوّر الحاصل في هذا المجال، حيث السرعة مطلوبة لتعدّد منافذ النشر والتواصل في العالم، ومنافسة النشر الإلكتروني للكتاب الورقي، وهو عذر واهٍ يتحجّج به البعض لإثبات رؤيته لما يحصل في عالم الكتابة والنشر، فالتعدّد في دور النشر مع أهمّيته؛ هدفه الربح على حساب جودة ورصانة العمل، متجاهلة مسؤوليتها تجاه الأعمال التي تقدّم لها، بعيداً عن التعميم، إلَّا أنَّ الواقع لا يقترح سوى القليل ممّن يتعاطون بوعي لما يقدّم لهم لنشره. تبقى ثنائية السرعة والتأنّي تحكم عملية الإنتاج الإبداعي، مع تعالي الأصوات بالركون لما ورثناه من تراثنا الثقافي، أو ما جاءنا عن طريق المثاقفة مع الغرب.
 صبر النحّات
السيناريست والقاص محمد توفيق، يشير إلى أنَّ الكاتب الذي يفتّش عن الشهرة السريعة مقابل نتاجه وعلى حساب نضج عمله الأدبي، كمن يطير بجناحين من الشمع سرعان ما يسقط على الأرض واهياً ضعيفاً منكسراً، علماً أنَّ النص الأدبي يحتاج إلى كثير من التروي وإعادة النظر تنقيحاً وتنقية وصياغة وبحثاً عن فكرة طازجة ومعالجة غير تقليدية، حتَّى يخرج هذا النص للمتلقّي بطريقة ناضجة حيّة بعيداً عن بعض الكتابات الإنشائية البسيطة التي لا قيمة لها. إذ يحتاج العمل الأدبي في أثناء الكتابة إلى كثير من الجهد والنحت والتركيز والصبر لا الركض وراء الشهرة السريعة التي سرعان ما تنتهي ويخفت بريقها. ولهذا فإنَّ الأعمال الأدبية العظيمة بقيت حيّة تعيش معنا برغم مرور سنوات طويلة على إنجازها من قبل أصحاب المواهب الكبيرة، الذين بذلوا جهوداً كبيرة في صناعة إنتاجهم الأدبي بكلِّ صبر وأناة، مدعمة بموهبة استثنائية. ولهذا، فمثل هذه الأعمال أصبحت لها قيمة كبيرة وبقيت حيّة ومؤثّرة برغم مرور سنوات طويلة على إطلاقها للنور.
زمن متسارع
ويختتم الكاتب أوس حسن موضوعنا قائلاً، إنَّه لا يمكننا اعتماد قاعدة منهجية ثابتة بالنسبة لإنجاز أيِّ عمل أدبي أو فكري، فهناك ظروف موضوعية وذاتية تتحكّم في الكاتب ومساراته وخياراته. هناك أعمال روائية كبيرة أنجزت في سنة أو شهور أو عدّة أيام، وهناك روايات كتبت في اليوم نفسه، في الطرف المقابل هناك أعمال عظيمة امتدّت مع الكاتب على مدى عمره لتشكّل له مشروع حياة كاملة.
بالنسبة لعصرنا الراهن، يرى حسن أنَّ السرعة والعجلة ثيمتان في هذا العصر قبل كلِّ شيء، فوسائل التكنولوجيا جعلت الزمن في تسارع مستمر، ونستطيع ملاحظة هذا على مدار اليوم الذي نحياه. السرعة في طباعة الكتب وتقديم منجز سريع يتماشى مع السلعة الرأسمالية يعتمد على عدّة أسباب:
أولاً: لا توجد هناك أيّ مركزية في عصرنا، فكلُّ شيء متخلخل وغير ثابت، فبالتالي هناك تبدّلات في الأفكار والطموحات والمشاعر والأهداف، فنلاحظ كثيراً من الأدباء والشعراء الذين أخرجوا نتاجهم الأول إلى النور، لكنَّهم لم يستمرّوا وتحوّلوا إلى عالم التجارة والأموال. وانغمسوا في أمور حياتية أخرى.
ثانياً: انعدام المعنى، والبحث السريع عن الشهرة، الأمر الذي خلق انفلاتاً وتسيّباً وتشظياً في طباعة الكتب الأدبية والفكرية، وحتّى الترجمات أيضاً.
أخيراً، فإنَّ ما أودُّ قوله، هو أنَّ التأني لسنوات طويلة تمتد مع عمر الكاتب في عصرنا الراهن.. هو بحدِّ ذاته شجاعة ومجازفة كبيرة، فنحن نعيش في زمن غير متوقّع ومتبدّل في كلِّ مرّة، والموت متربّص بنا في كلِّ لحظة.