عادل الصويري
بعد نكسة حزيران 1967 أصيب المشهد الثقافي العربي القومي بحالة اكتئاب كبيرة جداً بعد ضياع الحلم الذي كان مجرّد هباء شعاراتي ردّده العسكر وصدّقه الناس.
تلك الخيبة وآثارها منعت المثقفين العرب- إلّا القليلين- من التفكير بأسبابها، وتحليل الأسباب التي أدت إلى تلك الخيبة الكبيرة.
في ذلك الوقت كان الصوت القومي عالياً في الغناء والقصائد، ولم تكن إيران بنسختها الإسلامية الشيعية قد وُلِدت بعد.
ومع ذلك خرجت أصوات اعترفت بالحقيقة المُرَّة حتى مع ميولها القومية الناصرية.
ومن هذه الأصوات الشاعر المصري (صلاح جاهين) الذي كان يقول في جلسات تجمعه مع عبد الحليم حافظ ومحمد الموجي وكمال الطويل وإحسان عبد القدّوس إنه أسهم بتضليل العرب بتلك الشعارات التي حوّلها إلى قصائد مغنّاة غنّتها الناس في غيبوبة، ثم جاءت النكسة التي مثلت صعقة صحو لهذه الأمّة المخدّرة.
عاش صلاح جاهين حالة من الاكتئاب والعزلة، ليس بسبب النكسة فحسب؛ بل لأنه اكتشف الحقيقة المتخفية خلف قشرة العروبة، ولم يكسر عزلته، ويتغلّب على كآبته، إلا بكتابة أغنيات تافهة في أفلام سعاد حسني مثل أغنية (خلّي بالك من زوزو)، وكأنّه يريد نسيان خدر الأمّة بخدر جديد، لكنَّ خدره الحداثوي هذا لم يُسْعفه، ولم تستطع (زوزو) بث السعادة فيه فمات.
هذه الأيام أفكر في صلاح جاهين، وأنا أشاهد حال الشعراء العرب المعاصرين، وهم يعيشون ما يشبه النكسة الحزيرانية، لكنَّها نكسة هم صنعوها، وعملوا على تغذيتها بلذّة استثنائية لافتة، رغم أنَّ العدوَّ المشترك يتلقّى ضربات موجعة من طرف لا يريدون تصديق حقيقة موقفه؛ لأسباب مذهبية غبيّة. هم لا يحللون ولا يفكرون وهذا طبيعي جداً؛ لمحدودية مستواهم الثقافي، وضحالة الفكر الذي قوقعهم في وسائل التواصل.
إنّهم يتكدَّسونَ عشوائيّاً في ذاكرةِ نكستِهم المصنوعة برغبتهم اللذيذة. الرغبة التي يريدون فيها إعلان انتصار مذهبي مطليٍّ بغبار التاريخ ورثاثة اللغة، على طرفٍ يناصر قضيّتهم بالمعنيين: الإنساني والعقائدي، لكنّهم يصرخون بوجهه: لا نريدك؛ لأنك باختصار تجعلنا في أرق مزمن، وتُعرّي صمتَنا وخذلانَ أنظمتنا الحاكمة، ومستوى تفكيرنا وثقافتِنا الراكدة في الآسِنِ القيمي والأخلاقي.
لا نريدُكَ أيّها الحائكُ الماهرُ، والصاخبُ الهادئُ، والقادم من الحضارات القديمة؛ لتهذِّبَ بداوتنا التي تصرُّ على المكوث في قلّةِ الأدب. فاذهب واتركنا مستمتعينَ بعوائنا في القصائد، والتأمل في شريط أخبار سكاي نيوز، والرقص على أغنيات (ذا فويس) وهي تصنع أجيالاً تشبهنا في التفاهة الباردة، ومتابعة أخبار شيرين وحسام، والتنظير لتكرارنا البائس في لغةٍ صُنِعَتْ لنا، ولا نجيدُها إلّا من خلال شروحات علمائكم.
هؤلاء الشعراء لم يكتبوا (خلي بالك من زوزو)، لكنّهم عادوا بالزمن خمسين سنة إلى الوراء، وصاروا يكتبون القصائد الكئيبة غير الفنّية؛ ليستدرّوا العطف التواصلي الإلكتروني، فيجلدون ذواتهم بطريقة مصطنعة، ويمارسون الاختباء المكشوف خلف قشرة العروبة الطائفية المكشوفة أيضاً، فصارت (زوزو) عبارة عن قصائد عمودية تقريرية بائسة ترفض مقاومة الشيعة “الروافض”، بل وتغمز من بعيد إلى رفض مقاومة (حماس) السُنِّيّة، وتكتفي بمنطق الستينات المهلهل، مع بعض العتب العبيط على الدول العربية التي لا تناصر القضية، والحرص طبعاً على عدم ذكر الإمارات؛ لأسباب تتعلق بالمهرجانات والمسابقات والدعوات في تلك الدولة المطبّعة علناً، والتي صارت (زوزو) الفعلية لكثير من هؤلاء الزوزويّين.