فن كتابة الرسائل المفقود

ثقافة 2024/09/08
...

  ديانا هيرون
  ترجمة: أحمد رحمن


 فن كتابة الرسائل، باستخدام الحبر والورقة الحقيقيَّة، أصبح شيئاً شبه أثر ثقافي من الماضي، تماماً مثل هواتف القرص "الهاتف الأرضي" وغسالات الملابس اليدويَّة.
مع ذكر أنك تخطط لقضاء فترة ما بعد الظهيرة في كتابة رسالة، وباستعدادك لتقابل نفس الوجوه المتفاجئة التي تتضمن ومضات سريعة في العين، مثل تلك التي تحصل عليها في المطعم حين تنهض من على الطاولة، وتقول "عفواً، سأذهب لوضع الباودر على أنفي".
لم يعد ذلك يُمارس
أعتقد أن هذا مؤسف، لأن كتابة الرسائل تحتل مكانة مهمة في حياتي مذ كنت في الثالثة عشرة من عمري. حين قمت بتكوين، أول صديقة مفضلة لي، نناديها سمر. أنا وسمر نشترك في أشياء كثيرة: كنا ندرس في صفوف المتميزين، كانت أمهاتنا مصابة باضطراب ثنائي القطب، وكِلانَا أردنا أن نصبح كاتبتين. تطابق صنعنا في السماء أو في مدرسة Trewhitt Junior إن أردت التحديد. "هذه الإشارة تحمل حسَّ الفكاهة وتشير إلى تطابق الفتاتين أثناء دراستهما في هذه المدرسة".
 كان اختلاف واحد بيننا، مواعيد نومنا. كنت أغفو مبكرًا في المساء، عادةً على سريري حين أنهي واجباتي المنزليَّة، كان قلمًا مفتوحًا يترك بقعًا سوداء على غطاء سريري. كانت أمي تدخل وتجدني نائمة، فتتهمني بتعاطي المخدرات "بالطبع لم أكن كذلك". تعززت شكوكها بحبي الجديد لفرقة "Green Day" وطلاء الأظافر الأخضر.
أما سمر، فكانت تعاني من الأرق. وهذا جعلها تبدو أكثر بريقًا بالنسبة لي، إذ لم أكن أستطيع تخيل ما الذي يمكن أن يفعله الشخص بنفسه بعد الساعة الحادية عشرة ليلًا، على سبيل المثال.

كانت تكتب الرسائل
كانت تعطيني إياها عند الصباح في المدرسة مطوية بأشكال هندسية أنيقة. ونادرًا ما كان طولها أقل من عشر صفحات، ومعظم الأوقات تزيد عن العشرين. لم يخطر ببالي من قبل أنه من الممكن كتابة مثل هذه الرسائل، بالتأكيد ليس من قبل أشخاص في سننا. على الرغم من أنني تلقيت الكثير من "الملاحظات" من صديقات قبل ذلك، إلا أنها لم تكن تتجاوز "مرحبا، ما الأخبار؟ ليس هناك الكثير هنا"، وربما مع إضافة شيء عن فتى وسيم.
رسائل سمر كانت مختلفة. كانت عفوية ومضحكة، غالبًا غريبة، تحتوي على كلمات غير مألوفة جعلتني أبحث في القاموس باستمرار. كانت مليئة بالقصص الخيالية، الرسومات العابثة، مقتطفات من القصائد، كلمات الأغاني، ولم تكتب بالسطور فقط بل ملأت الهوامش أيضًا.
كانت تعزز هذه الرسائل على مدار اليوم برسائل أقصر مكتوبة في وقت الفراغ خلال الحصص الدراسية. بدأت بالرد عليها، أكتب كلما وأينما استطعت، وتحدتني رسائلها على الكتابة بشكل أفضل مما كنت أكتب في السابق.
لا يزال لدي الكثير من هذه الرسائل، ويسعدني في ذلك العمر كنت أملك الحس للحفاظ عليها، مع العلم أنها ستظل ثمينة بالنسبة لي.  حتى بعد أن افترقنا أنا وسمر، حيث أن كل شخص له أهمية حقيقية في حياتي كتب الرسائل أيضًا، لأضيفها إلى مجموعتي.
صديقي جيريمي، في الرابعة عشرة من عمره، كتب لي عن نظرية الفوضى، الزاباتستا "مجموعة ثورية مسلحة في جنوب المكسيك تهدف لحكم ذاتي وضد الإمبريالية والعولمة"، موسيقى البانك روك الصاخبة، ستيف ماكوين "ممثل أمريكي". أما صديقي ماثيو فكتب لي عن اعتقاده أن الشيطان قد ظهر له وعرض عليه عرضًا بشأن مستقبله، لكنه رفض.
الآن فإن أكثر من يكاتبني بإخلاص هي صديقتي جيني، التي بدأت تكتب لي عندما انتقلت إلى اليابان. كنت أتوق إلى وصول ظروفها المزينة بدوائر صغيرة أو خطوط ترسمها بأقلام ملونة ذات رؤوس دقيقة، أو بأغلفة أجنبية تلصقها بالصمغ.
كانت تجمع العديد من الرسائل والبطاقات البريدية ثم ترسلها معًا، بحيث ترسم صورة لحياتها على مدار فترة زمنية: يوم عثورها على طعام أمريكي مفضل في السوبر ماركت الياباني، يوم خبزت فيه كعكة، اليوم الذي تساقطت فيه الثلوج وبقيت في المنزل وشعرت بالقلق من أن تكون وحيدة إلى الأبد.
في دراساتي العليا، كوّنت صداقة مع شخص يؤمن فقط بالكتابة وإرسال الرسائل؛ كان يستخدم البريد الإلكتروني فقط إذا كان ذلك ضروريًا للغاية. تفسيره؟ البريد الإلكتروني كذبة. إنه يقطع المسافة في لحظة، وكأن المسافة غير موجودة. لكنها موجودة بالفعل.
إذا كتبت رسالة إلى شخص بعيد، فأنا أريد أن يستغرق وصولها أسبوعًا، بل أكثر، لأن هذا صحيح. المسافة حقيقية، ويجب التعبير عنها".
حتى باعتباري من معجبي كتابة الرسائل، كان لدي شك في ذلك. لكن بعد أسابيع، تلقيت رسالة منه مكتوبة على هوامش صفحة ممزقة من رواية قديمة، لم أستطع إلا أن أبتسم وأفكر في رحلة الرسالة من ماساتشوستس إلى تينيسي.
هناك شيء عظيم في تلقي رسالة، حتى المواد الملموسة فقط، الحبر أو الجرافيت "كاربون للطبع" على الورق، وخط يد الكاتب، وليس فقط كلماته في  Times New Roman"نوعية خط لاتيني للطباعة بصورة عامة في الآلات الحاسبة والبرامج الذكية".
هناك شيء قوي أيضًا في قراءة كلمات صنعت يدويًا من أجلك فقط، وليس لأي شخص آخر، وتُرسلُ لتقرأها عيونك أنت فقط. إنه مثل تلقي هدية، فعل للحب.
وكتابة الرسائل لشخص آخر، هو فعل حب أيضًا، من المؤكد أن المتلقي سيشعر به، حتى عند فتح الظرف لأول مرة، بالتأكيد أكثر من النقر على "فتح" بنقرة واحدة على لوحة المفاتيح.
من يدري؟ قد يحتفظ ذلك المتلقي بتلك الرسائل لسنوات، حتى تصبح الصفحات ناعمة وصفراء، ويطويها في هدوء الليل، ويتذكر، ثم يبدأ.
* ديانا هيرون كاتبة ومعلمة من أصل كليفلاند، تينيسي، وتعيش حاليًا في سياتل. وهي خريجة ماجستير في الفنون الجميلة في الكتابة الإبداعية بجامعة Seattle Pacific.