انعدام التوازن

ثقافة 2024/09/10
...

 بغداد: الصباح

يطرح جورج باتاي ضعف التدبر الفلسفي لسؤال الإيروسية ملاحظاً أن الفلسفة قد اتسمت على الدوام بموقف متعال على الحياة: "إن خطأ الفلسفة يكمن في ابتعادها عن الحياة". ولكن وجهة النظر هذه تتعلق بالحياة في حقيقتها الأكثر عمقاً. فهي تتصل بالحياة الجنسية في ضوء عملية التكاثر هذه المرة. صحيح أن التكاثر يتعارض مع الايروسية، ولكن المعنى العميق لعملية التكاثر يظل رغم ذلك مفتاحاً لا غنى عنه لفهم الإيروسية.
وهذا يأخذنا لإيروسية الأجساد التي تتسم بشيء من الفظاعة وبأنها تشكل عبئاً على الكائن. إنها تحافظ على استمرار الانفصال الفردي في شكل أنانية فجّة. أما إيروسية المشاعر فإنها أكثر تحرراً. غير أنها تنفصل ظاهرياً عن مادية الإيروسية الجسدية، وإنها في الحقيقة تنبع منها لأنها تمثل عادة سوى مظهرها الذي هدأه شعور المحبين المتبادل، وفقاً لكتاب "الايروسية: تأملات في الشبق والموت وفي جدلية العقل والإسراف" لجورج باتاي وترجمة محمد عادل مطيمط.
لقد شهدت المرحلة التي أعقبت رحيل باتاي، "ثورة جنسية" تمت الإشارة لها في شكل تحرير الأعراف والمواقف الجنسية، والتي تم الحفاظ على الكثير منها، على سبيل المثال، في التشريعات القانونية المتعلقة بإلغاء تجريم الانتهاكات الجنسية وغيرها.
إن الانتشار التجاري للمواد الإباحية أدى إلى تقبل معظم الاعتداءات الجنسية. في حين أنه ليس لدي أي شك في أن باتاي كان سيشعر بالفزع من الطبيعة النفعية من الجنس والتكرارية اللانهائية لما يحدث في عصرنا.
كتب يقول إن "الإثارة الجنسية هي القبول بالحياة حتى الموت"، ويعني بذلك أنه لا يمكن أن يكون هناك قبول للحياة إذا لم يتم دفعها إلى حد الموت، إن غاية ما تنطوي عليه الإيروسية هي إدراك الكينونة في عمقها، فالمرور من الحالة العادية للكائن إلى حالة الرغبة الإيروسية يفرض الانحلال النسبي فينا لهذه الكينونة القائمة في منظومة الانفصال. ويعكس الانحلال هنا معنى تلك العبارة المألوفة المرتبطة بالإيروسية عندما نقول "حياة منحلة".
إن الحياة التي تُنفق بضمير حي في مساعٍ مفيدة وصحية مكرسة لتجنب وتأجيل الموت بأي ثمن هي حياة يُنكر عليها. "ليس هناك طريقة أفضل لمعرفة الموت من ربطه بصورة فاسقة" يكتب باتاي في إشارة إلى ماركيز دي ساد، مؤكداً أيضا أن "رؤية القتل أو التفكير فيه يمكن أن يثير الرغبة في الاستمتاع الجنسي". يتوافق هذا الامتداد لرغبة غامضة في السقوط إلى مجالات لا مبرر فيها للفوضى ظاهرياً، مع نزوع يهيمن على الحياة الإنسانية. فنحن دائماً ما نجتهد من أجل مضاعفة الصور الراسخة والقابلة للبقاء، حيث تستوعب الحياة انعدام توازنها وتحد منه، أي أنها تستوعب وتحد من الصور غير المستقرة والتي هي بمعنى ما غير قابلة للاستمرار ويتم فيها إثبات هذا الانعدام
للتوازن.