العراق الكهربائي

آراء 2019/06/18
...

علي حسن الفواز
يمكن القول وبوضوح شديد أنّ مشكلة الكهرباء صارت همّا وطنيا ضاغطا، وعقدة تُثير حولها اسئلة كثيرة، وحساسيات أكثر، فهل هي مشكلة فساد سياسي أم اقتصادي فقط؟ وهل أن القيّمين على الوزارة في حلقاتها الفنية والادارية والتخطيطية غير جديرين بتسلّم ملف هذا الهمّ الوطني؟ وهل هناك خلفيات سياسية وراء الموضوع، وبالاتجاه الذي يجعل البيئة العراقية منطقة صراع وتوتر دائمين؟
هذه الاسئلة وغيرها تجعلنا أكثر صراحة في  البحث عن الوجه الحقيقي للمشكلة، وعن الخفايا التي تقف وراءها، لاسيما أن التخصيصات التي رُصدت لمعالجتها تجاوزت 40 مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لبناء مدينة بكاملها، لكن الاسئلة الأكثر مرارة هنا هي ما تستدعي المواجهة: كيف صُرفت هذه التخصيصات؟ وماهي موجبات الصرف؟  وماهي الجدوى التي بررتْ هذا الصرف؟  وهل هناك خارطة عمل ربطتْ مابين المخصص والمصروف وبين المنجز؟
تداخل الاسئلة سيظل مفتوحا، وسيظل الوجه الاجتماعي والخدماتي لمشكلة الكهرباء أكثر تعبيرا عنها، وعن العجز في معالجتها، وعن الشكوك التي تُحيط بكلِّ البيانات والأرقام التي تُعلنها الجهات المعنية في الوزارة، والتي لا تنسجم مع الواقع، ولا مع حاجة الناس الى خدمات كهربائية مناسبة، حتى بدا الأمر وكأنه هروب للامام أكثر منه مواجهة لخطورة هذه المشكلة..
 
غابة المولدات الكهربائية
قد يكون هذا التوصيف مناسبا للحالة العراقية، ولطبيعة وجود المولدات الكهربائية فيها، والتي تُقدّم خدمات موازية، لكنها مدفوعة الثمن، وتحت مسميات متعددة كالخط الذهبي، والخط الليلي، وهي توريات لمزيد من الانهاك الاقتصادي للعائلة العراقية، وفي اجواء تتصاعد درجات حرارتها الى مايتجاوز نصف درجة الغليان..
عطل المعالجات الكهربائية ومنذ أكثر من 17 سنة يُثير الريبة حول علاقة (غابة) المولدات الكهربائية بالصراع السياسي، وبالجهات التي تملك لجانا اقتصادية هنا أوهناك، إذ إن رهانها على استمرار الفشل الكهربائي، أو التعمّد في افشاله، يعكس خطورة ماتحمله تلك العلاقة، وخطورة أن يظل العراق ذو الثروة النفطية والغازية الكبيرة بلدا مستوردا للكهرباء، وبكلّ مايعنيه هذا الاستيراد من  توصيفات ومشكلات سياسية واقتصادية معروفة.
الكهرباء طاقة رخيصة عالميا، ليس صعبا أن نتجاوز حاجتنا الاستيرادية منها، لكن في ضوء وجود التخطيط الحقيقي، والادارة الفاعلة، والمعالجات التي تستدعي اولا وجود القرار السياسي الواضح، مثلما تستدعي وجود برامج للتعاون والتنسيق مع جهات ووزارت ومحافظات ثانيا، فضلا عن وجود الارادة التي تملك القدرة على تنفيذ تلك البرامج الوطنية لمعالجة الكهرباء ثالثا.
 
الدولة المدنية والدولة الخدماتية
توصيف الدولة لايعني الدخول في مجال مفاهيمي، ولا في سياق جدل حول طبيعة هذه الدولة، لكن ما ينبغي التأكيد عليه واستحضاره- هنا- هو التلازم مابين التوصيفين، لأنّ الدولة المدنية هي الدولة الحقوقية، مثلما هي دولة الرفاهية الاجتماعية، ومن أكثر علامات هذه الحقوق حضورا هي الخدمات، وأية مقارنة واقعية سنجد أن التجاوز على حقوق الناس في الخدمات وفي الامن الاجتماعي والتعليمي والصحي والكهربائي هو المفارقة التي تحتاج الى النقد والمراجعة والتقويم، وبالشكل الذي يدعو الجميع لأن يكونوا في صلب المسؤولية الوطنية، فالكهرباء كمايبدو ليست مشكلة وزارتها فقط، بل هي مشكلة أمانة بغداد والمحافظات، مثلما هي مشكلة وزارة التخطيط، وحتى مشكلة رئاسة الوزراء بوصفها صاحبة القرار في التخطيط والتنفيذ، فضلا عن كونها مشكلة تشريعية حقيقية، ومُلزمة، والتي تتطلب ايجاد معالجات سريعة، وبعيدة عن البيروقراطية، وحسابات هذه الجهة أو تلك، ومن أهمها مراجعة ملف(الصرف والانفاق) الغرائبي على ملف الكهرباء، ومعالجة ظاهرة العشوائيات التي تدّعي وزارة الكهرباء أنها تُحمل المنظومة أكثر من طاقتها.
الدولة الخدماتية هي دولة الديمقراطية والمشاركة، وهذا يعني ضرورة الاتفاق على برامج واقعية وبسقوف زمنية محددة لمعالجة مشكلة الكهرباء الغامضة والمستفحلة، فضلا عن معالجة مشكلات أخرى لا تقل تعقيدا كمشكلات الصحة والتعليم والسياحة والبيئة وغيرها.
إنّ التلازم بين المشكلات هو تعبير عن خلل منظومة الدولة، في توصيفها، وفي هويتها، وفي سيادتها، وفي أن تكون هذه الدولة بمستوى التحديات التي تواجهها، وبمستوى حاجات الناس الى الأمن الوطني في مفاصله المتعددة، واحسب أن النجاح في ادارة الدولة وفي تأمين خدماتها الضرورية لا يقلّ شأنا عن الانتصار في المعركة الوطنية ضد الارهاب والتكفير والكراهية، لأن التلازم بين الانتصار والنجاح هو الافق الذي يمكن الرهان عليه، والفعل الذي يجعل الناس تثق بمشروعية الدولة، وبنظامها السياسي، وببرامجها الخدماتية التي مازالت تحبو وتتعثر، وبعيدة عن الرؤية الواضحة التي نفترضها لمواجهة مثل هذه المشكلة وغيرها..