القراءة الدراماتورجيَّة في المسرح

ثقافة 2024/09/11
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب 

 

يبدو أن مفهومي الدراماتورج والدراماتورجيا ما يزالان غير متمثلين أو متحققين بكامل طاقتهما الابداعيّة والاجرائيّة في مسرحنا العراقي المعاصر على الرغم من تبلورهما في المشغلين العربي والعالمي، إذ تمت مساءلتهما الفكريّة والجماليّة في النظرية الدرامية والمسرحية وادخلا بشكل عضوي في جسد الفرجة والمسرحة، وفي كلا الفضاءين الجغرافيين والثقافيين العربي والعالمي ولذلك أسبابه العديدة التي من اولاها هو تفاقم (الانويَّة) والمركزيّة لدى المخرج المسرحي العراقي مما أدى الى عدم الاعتراف بواجبات (الدراماتورج) داخل بنية العرض المسرحي وتعذر وجود رأسين يفكران في العرض ويولدان أنساقه السمعية والبصرية، فضلا عن اتّكاء المشغل المسرحي العراقي ولفترات طويلة على البنية الدرامية العالمية المكتملة في بناءاتها واشكالها التي من المتعذر زحزحة بناءاتها ومركزيتها الثقافية باتجاهات جديدة وقراءات ورؤى مغايرة. أما المنتج الدرامي المحلي فقد ولد منذ البداية ضعيفاً فيه هنات ومؤاخذات في الشكل والمضمون تسمح بولوج هذا الكائن الجديد (الدراماتورج) الى فضائه ليرمّم ويعدل ويضيف ويحذف في النص الجديد لبناء نص علائقي متعدد المشارب والاتجاهات كما في نصوص قاسم محمد، وهذا للأسف ما لم يحدث ويتم إلا في تجارب قليلة هنا أو هناك وجرى استهلاك عنوان الدراماتورج لدينا كإسقاط فرض وانعكاس زائف للحداثة وحركتها في العالم الغربي واستجلاب أسماء لا علاقة لها بهذا المفهوم لا من قريب ولا من بعيد فقط لإشغال تذكرة سفر لمهرجان أو مؤتمر فكري أو مناسبة مسرحية خارج البلاد, لذا نحاول أن نبين هنا أهمية القراءة الدراماتورجية وفعل الدراماتورج في مضان العرض المسرحي وتشكلاته. لقد عرف الخطاب المسرحي مجموعة من القراءات كالقراءة الاجتماعية والنفسية والسميولوجية، لكن على الرغم من اهمية هذه القراءات في مقاربة الخطاب المسرحي فإنها لم تستطع الإحاطة بكل مكوناته. ولم تتمكن من إبراز تعقيداتها وطريقة اشتغالها الداخليّة لذلك ينبغي إعادة النظر في هذه القراءات وفي مناهجها التحليليَّة للبحث عن قراءة تتلاءم الى حد كبير وطبيعة الخطاب المسرحي، يقول المخرج الالماني "ماكس راينهارت" "إنَّ قراءة المسرح تعتبر عملية مكتفية بذاتها خارج العرض الفعلي، لأنها لم تتحقق بمعزل عن بناء مسرحية متخيلة وعن تشغيل العمليات الذهنية" لذلك لا ينبغي النظر إلى تمفصل وحدات النص الدرامي باعتبارها وحدات لغوية يمكن تحويلها الى ممارسة مسرحية، ولكن ينبغي أن ينظر اليها على اساس انها متن لغوي لإمكانية التمسرح التي تشكل القوة المحرّضة للنص المكتوب. بمعنى أن مفهوم التمسرح الذي يعتبر سمة من السمات المميزة للخطاب المسرحي يفتح لنا آفاقا قرائيّة جديدة تمكننا من تحديد خصوصيات المسرح في تجسدها وتمسرحها النصّي قبل أن تتحوّل الى فعل مجسّم على الخشبة من خلال العرض. لذلك ينبغي التعامل مع النص الدرامي من منظور التحليل الدراماتورجي الذي يمكننا من الاشتغال عليه بوصفه فرجة كما يمكننا من الوقوف على الوحدات الدراماتورجية التي يستعملها النص الدرامي لتبيان حركته فضائيا وزمنيا وتركيب احداثه الدرامية تركيبا صراعيا، يقول الفرنسي "باتريك بافيس": "يعالج التحليل الدراماتورجي الواقع المعروض داخل المسرحية طارحا الاسئلة التالية: أي زمنية؟ أي فضاء؟ اي نوع من الشخصيات؟ كيف نقرأ الحكاية؟ ما هي علاقة العمل بلحظة ابداعية سابقة وباللحظة التي يعرضها راهنا؟ كيف تتداخل تاريخيات العمل؟ فالتحليل الدراماتورجي يكشف عن الفجوات والنقط الغامضة والملتبسة في العمل المسرحي، ويبين مظهر العقدة ويميل الى تصور خاص كما يوفر تشخيصات متعددة" نستنتج من هذا القول إن التحليل الدراماتورجي أو القراءة الممسرحة هي محاولة نقل الكتابة الدرامية إلى الكتابة الفضائية، أي الانطلاق من النص الى العرض عن طريق ما هو متخيل إلى كيان حي ملموس ومجسد، بمعنى أن التحليل الدراماتورجي يهدف الى تجاوز مستوى النص للبحث عن مستويات تحقيقه فوق الخشبة، وهكذا يتضح أن القراءة الدراماتورجية قراءة ملائمة لطبيعة الخطاب المسرحي لأنها تهدف الى تحديد العلاقة بين النص والعرض، تنطلق من النص لتتصور امكانات تحققه فوق الخشبة وتنطلق في الآن نفسه من الخشبة لدراسة صور التلقي واشكاله. 

لقد عرف المسرح عبر مراحله التاريخية الطويلة نوعين أساسيين من الدراماتورجيا: دراماتورجيا ارسطية ودراماتورجيا ملحمية برشتية، تقوم الأولى على أساس الفعل المتواصل المحقق للايهام الذي يتولد عنه الاندماج الكلي للمتلقي في الاحداث والشخصيات، في حين تقوم الثانية على اساس السرد المتقطع الذي يحقق عنصر التغريب ويجعل المتلقي يأخذ موقفا نقديا من العرض، ومع التطورات والتغييرات الفكرية والفنية التي عرفها المسرح الحديث سيتعدد مفهوم الدراماتورجيا وسيعرف اختيارات متعددة منها دراماتورجيا الممثل ودراماتورجيا الفضاء وغيرها.. الشيء الذي جعل بعض الباحثين ومنهم "ريشار مونو" يميزون داخل هذا المفهوم وتعدديته ثلاثة تحديدات اساسية ندرجها كالاتي: (1 ـ الدراماتورجيا عمل يضطلع به المخرج من خلال قيامه بتحليل ادبي نقدي وتأريخي للنص الذي يود إخراجه ومسرحته فوق الخشبة. 2ـ الدراماتورجيا هي دراسة للعرض المسرحي تهدف الى الربط بين راهنية العرض وبين زمان ومكان الحكاية المعروضة. 3ـ الدراماتورجيا سمة ملازمة للنص المسرحي تتعلق بجوانب تقطيعه وتركيبه والتأليف بين مختلف مكوناته على الخشبة زمكانيا وشخوصيا). 

إنَّ هذا التحديد الأخير هو الذي سيمكننا من قراءة مظاهر التمسرح في النص الدرامي لأنّه يسعى إلى تسليط الضوء على عملية المرور من الكتابة الدرامية الى الكتابة الاخراجية والسينوغرافية، نستنتج مما سبق أن القراءة الدراماتورجية هي تلك القراءة التي تبحث عن التمسرح في الكتابة النصيّة الدرامية وعلى الخشبة خلال التدريبات، لذلك يعتبر مجالها التحليلي تطبيقيا لأنّها ترصد الافعال المسرحية وما يصاحبها من تلفظات لغويّة وسلوكات مادية. وهذا يعني أنها قراءة مادية ملموسة ترتبط أساساً بشروط العرض وباشتغال النص داخل تمسرحه، وهذا يعني ختاما أن القارئ الدراماتورجي يعتبر قارئا مبدعا وليس مجرد منظم أو مفسر للنص المسرحي لأن قراءته تسمح له باستكناه هذا النص وتأويله بهدف إعطاء تصورات واقتراحات لتحقيقه معروضاً فوق الخشبة.