الدولة في زمن الحداثة الصلبة

آراء 2024/09/11
...

 أ. د عامر حسن فياض


عرفنا مفهوم الدولة زمن الحداثة الصلبة بأنها معطى من معطيات الحداثة على رأي هيجل. وعندما أصبحنا نعي عصر الحداثة السيالة، نحو التوحش شاعت التفاهة ومست كل شيء حتى المفاهيم. والحداثة السيالة على رأي عالم الاجتماع البولندي البريطاني (رجمونت باومان 1925- 2017م) أكدت بحق أن عالمنا المعاصر يعيش زمن الصفر الأخلاقي، بعد أن غادر عصر الحداثة الصلبة، ولم يعد راسخا ومستقرا وتحول إلى حالة من السيولة والعدم اليقيني واللا استقرار، وتسييد الاستهلاكية على حياة الأفراد وأخذنا نقع في مستنقع الأخطاء الاصطلاحية للكثير من المفاهيم، التي تم نحتها بعناية فائقة في عصر الحداثة الصلبة ومنها مفهوم الدولة. 

يشير تعبير دولة لغة إلى التغيير والتبديل والانتقال من حال إلى حال، ويقال دارت الأيام أي دارت، والدولة في الحرب تعني الغلبة: إن تدال احدى الفئتين على الأخرى، يقال كانت لنا عليهم دولة والجمع الدول بكسر الدال، والدولة بالضم في المال يقال صار الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا ومرة لهذا، والجمع دولات ودول، وقال ابو عبيد : (الدولة بالضم اسم الشيء الذي يتداول به بعينه، والدولة بالفتح الفعل)، وقال أبو عمرو بن العلاء: (الدولة بالضم في المال وبالفتح في الحرب)، وقال عيسى بن عمر: (كلاهما تكون بالمال والحرب سواء)، وقال يونس: ( والله ما أدري ما بينهما، وأدالنا الله من عدونا من الدولة، والإدالة، الغلبة، يقال اللهم أدلني على فلان وانصرني عليه والله يداولها بين الناس وتداولته الأيدي أي أخذته هذه مرة وهذه مرة).

في حين تشير لفظة state) المشتقة من كلمة status) ) في اللاتينية، والتي تترجم إلى (دولة) في العربية إلى معنى الثبات والاستقرار إذ انها تعني حالة المملكة، حتى أن ربط الفلسفة اليونانية القديمة ما بين الدولة والمجتمع المدني، يأتي من محاولة إعطاء ميزة الثبات والاستقرار للنظام الذي يتميز عن الأنماط المجتمعية الاخرى، والتي تتميز بلا استقرارية، كالمجتمعات البدائية وغيرها، وهذا ما يتفق مع المعنى الاصطلاحي للفظة الدولة الذي يوحي بالثبات والاستقرار، ولذلك يشار بالقول دولة مستقرة ودولة راسخة للإشارة إلى ثبات النظام القانوني والاجتماعي في نطاق جغرافي معين، إذ إن البعض يعد لفظة الدولة مجموعة من الأفكار كالسلطة والنظام وإنها مفردة حديثة دخلت في الاصطلاح السياسي في القرن السادس عشر، وكانت تتعارض في ذلك الحين مع السيادة العالمية القديمة بمرماها الثلاثي الروماني والمسيحي والجرماني. 

إن الدولة معطى سياسي غربي حديث الظهور اي ان الدولة هي تسمية حديثة لشكل مستحدث من اشكال السلطة السياسية. فالأخيرة أي السلطة السياسية موجودة بوجود المجتمع اي قبل وجود الدولة. فكل المجتمعات الانسانية شرقاً وغربا في العصور القديمة والوسيطة عُرفت صوراً مؤسسية متنوعة للسلطة السياسية، سواء كانت مملكة، امارة اقطاعية، خلافة، سلطنة، امبراطورية. إلا أن أياً من تلك التسميات للوحدات السياسية لا تشبه الدولة الوضعية الحديثة، التي تستقل فيها السلطة والوظيفة السياسية وتتخصص وتكتسب طابعا مؤسسيا يفصلها عن شخص من يمارسها.

ومن ثم فإن تسمية أي من تلك الأشكال المؤسسية التقليدية للسلطة السياسية دولة/ دولا، سيكون من قبيل الخطأ الاصطلاحي الشائع أو الاستعمال التعبيري المجازي، والأمر في الحالتين راجع إلى التشابه الشكلي بين الدولة الوضعية الحديثة والأشكال التقليدية للسلطة السياسية، مما ساعد على الخلط في المسميات بينهما، على الرغم من اختلافاتها الجوهرية. 

إن شخصية الدولة وفقا لهذا الطرح ليست سوى رمز يمثل الجهد المبذول، وعلى هذا الأساس، فإن وجود الدولة يتطلب توفر عناصر أساسية أو أركانا مجتمعة، وهي وجود جماعة بشرية، التي يطلق عليها اصطلاحاً (الشعب) أو (الأمة)، تعيش على رقعة جغرافية محددة المعالم تسمى إقليما أو وطنا، وأن تكون هذه الجماعة البشرية خاضعة لنظام اجتماعي وقانوني وسياسي تحميه سلطة عليا، وهي السلطة السياسية، وأن عدم توافر أحد هذه الاركان، يعني عدم قيام الدولة وبوجود هذه الاركان الثلاثة مجتمعة، توجد الدولة كحقيقة واقعية في نظر القانون والمجتمع على الصعيد الداخلي. أما وجودها على الصعيد الخارجي فإنه يتمثل في انضمامها إلى المجتمع الدولي والاعتراف بها من جانب أعضاء هذا المجتمع. 

هناك اتجاه آخر يذهب إلى أن مفهوم الدولة يتصل بكل جماعة سياسية منظمة، ومن ثم فهي كل مجتمع سياسي أيا كانت صورته، وهذه النظرة ترجع إلى أن الدولة في تقدير هذا الاتجاه هي حدث اجتماعي يتحقق ويوجد في كل جماعة يتوافر الاحساس بضرورة التضامن الاجتماعي بين أفرادها، ومن ثم يقوم مجتمع بشري يسود بين أفراده الاختلاف السياسي وتجري داخله التفرقة أو التمايز بين طائفتين إحداهما حاكمة والأخرى محكومة. وعلى هذا الاساس تنوعت تعاريف الدولة والنظريات المفسرة لنشوئها، فقد عرفت الدولة على أنها نوع من التنظيم الاجتماعي، الذي يضمن أمنه وأمن رعاياه ضد الأخطار الخارجية والداخلية. وهو يتمتع لهذا الغرض بقوة مسلحة وأجهزة للإكراه والردع. ولا توجد دولة بلا درجة عالية من الانسجام الاجتماعي والتنظيم التسلسلي، اللذين يسمحان للحكومة بإشعاع سلطتها، وتنفيذ رغباتها، وكذلك عُرفت الدولة بانها شخص معنوي له طابع الدوام والاستقرار والاستقلال عن اشخاص الحكام. وهي وسيلة المجتمع لتنظيم نفسه من اجل تحقيق تقدمه

وازدهاره.