د. رشيد هارون
لا تبدو للكثير من الناس أن ثمة علاقات واضحة تحكم الأشياء والعناصر والحيوات وضروب القول والفنون في الطبيعة وتضمّها، حتى كأنَّ بعضهم لا يفكّر بها وقد يستبعدها بسبب من أنّه ينظر إليها مجزّأة، أو مستقلة، هذه النظرة المجزّأة للماحول هي في الحقيقة نظرة مجزّأة للنفس من حيث التشكيل والتفكير وطريقة الأداء في الحياة على نحو عام، والحياة اليوميَّة على نحو خاص، ويبدو الأمر أكثر تعقيداً وصعوبة وتمنّعاً حين يتم التفكير في استقصاء العلاقة بين فن عقلي ذهني كالفلسفة وفن إبداعي عملي تخييلي كالفن التشكيلي، يقوم الاستبعاد على أن واحداً من وجهي العلاقة يقوم على ما هو مادي والآخر على ما هو ذهني تجريدي تتعاقب توصلاته على الاستنتاج والاستقراء أو العكس، ولا يرد في البال أن طرائق تفكير الفنان التشكيلي لا تنأى كثيراً عمّا يفكّر به الفيلسوف في تمنياته العليا التي هي تمنيات أرضيَّة واقعيَّة لا يحدّها زمان أو مكان، فيتلقف التشكيلي ما هو أرضي وواقعي ليعلو من شأنه ليُنظَر إليه والرأس
مرفوع.
لا تبدو علاقة الفن التشكيلي بالفلسفة على جانب من البساطة واليسر المعهود بالنسبة للتفكير التجزيئي، ويمكن استشراف غير علاقة بين الفن التشكيلي والفلسفة وكما هو آت: "كعلاقة الابتداء، والعلاقة العلوية الشرفية، والعلاقة بالحريّة، فضلاً عن العلاقة المكانية والزمانية".
علاقة الابتداء
قد نذهب إلى الظن أن الفن التشكيلي والفلسفة منتجان بشريان لم يرافقا طفولة عقل الإنسان، والحق أن لكل مخلوق مبتدأ غير مفكّر به، ولا مخطّط له من لدن المخلوق نفسه، لكنّ الأخبار على النقيض منها، فهي مخطط لها ومفكَّر بها بسبب من قوة استدعاء المبتدأ لها، ولا شكّ بأن للفن التشكيلي ابتداء يتصل بالحاجة وبضرورات الحياة فتستدعى مع هذا الابتداء حاجة الإشباع، ولا يستدعى حينئذٍ ما هو كمالي جمالي، ولقد قيل: إنَّ الإنسان البدائي كان ينحت أشكالاً تناغي أشكال الحيوانات التي عزم على صيدها، فَنَحتَ على الصخور شكل الثور استمالة له وإيقاعاً به، ولقد ذكرت المرويات أن الإنسان القديم كان يستميل السماء بالرقص والغناء إذا ما حبست عن المطر، هذا الابتداء على بساطته لا أحد يلغي أهميته، وأهمية وجوده بوصفه مادة لتشكّل أهم وأوسع وأعمق، والأمر نفسه يصحّ على الفلسفة فهي من البديهي أن لا تظهر مرة واحدة ممارسة ومصطلحاً وطروحات، ولعل ظهورها يشير الى تراكمات فكريّة سابقة عليها وما تقعيد الفلسفة والنظام الذي حكمها إلا شعور بمواد فلسفية مبعثرة بها حاجة الى قواعد وأنظمة فانغمرت عقول فذّة معينة لتقوم بالمهمة، ولا يعني قلة الفلاسفة أن هذا العلم بلا بدايات ساذجة، آخذين بالحسبان أن ما هو ساذج من التفكير يمكن أن يعدّ مستفزّاً للعقل المنظم ودافعاً إلى تشذيبه في حقب لاحقة من تطوّر العقل البشري وسيره نحو النضج الذي كلّما نظر الى الوراء سينعت الأفكار السابقة له بالسذاجة ومحدوديَّة التوصّل، وما توصّل إليه العقل البشري من ثورة تكنولوجية يؤكّد ذلك بوضوح.
إنَّ علاقة الفن التشكيلي بالفلسفة بوصفهما ممارستين علويتين لا يلغي مبتدآتهما البسيطة، لكن ما توصّلا إليه من نتائج مادية وذهنية يوحي وكأنه يقطع علاقة السابق منهما باللاحق وهو أمر لا يحتكم إليه العقل الناقد، فضلاً عن أن العقل الفلسفي نفسه لا يركن إليه أيضاً، لأن الفن التشكيلي والفلسفة منتجان مدينيّان، والمدن اليوم لم تكفّ عن التطوّر في حين كان تطوّرها بطيئاً في الأزمان الماضية، والبطء لا يلغي الوجود لكنّه قد يسهم في إضعاف وتشتيت الانتباه إليه، متناسين أنّ العاملين في هذين الحقلين فاعلون ومشكّلون علويون لصور وموضوعات وأفكار من طراز خاص كان الابتداء مواد أوليّة وخط شروع لمسيرهم الخاص، والعلوي والشرفي.