ياسين طه حافظ
هل أبدو مشاكساً أو مزور حقائق، أو أني أجد عذراً للسيئين من حكام تلك البلدان، التي لا نجد فيها ما يسرّ ولا ما يربح، فنحاول نكذب أهلنا ونتقرب للمبرزين والوجهاء في كلام واضح الخلاف مع واقع الناس وحقيقة الأشياء؟
لست كذلك، أنا صادق معكم لا مفترٍ، وأنا على سخريتي الباطنة صريح العبارة في الكشف واحترام الحقيقة كامل الاحترام.
يوماً سألت نفسي: هل لهذا الأمي المتباهي، أو الفاتك جعبتهُ ملأى بالتعابير، أو لذلك الداعية الديني والأخلاقي أو المبدئي السياسي، وأمثالهم في البلدان المتخلفة، أن يبرزوا ويترأسوا ويتزعموا ويصيروا قادة مجتمع ويديروا شؤون الناس، لولا تخلف بلداتهم ومجتمعاتهم وسوء انظمتها، و"تابعيتها" ولولا جوع الناس فترضيهم الهبة أو يتأسون بالرشى؟ في المجتمعات المتفوقة قد لا يأتي الأفضل لكن السيئ واضح ولا أحد يرتضيه. نحن لا نستطيع نكران أن هذا الدمية أو ذلك الببغاء، ما كان يجد نفسه نائباً في برلمان بلده ولا مديراً في مؤسسة من مؤسسات البلاد، لو لم يكن بلده متخلفاً بائساً، وتعبث فيه السياسة وانتماءاتها والقبلية وانتماءاتها، والمذهبية وانتماءاتها.. و"العوائل" الوجيهة المتنفذة وانتماءاتها؟ النتيجة واضحة بينة، والشكر للتخلف والحمد له!
ولكي لا ابتعد كثيراً فأُتّهم بالحقد القديم والضغينة، سأحدثكم حديثاً أبسط واقرب إلى شخوصنا مما لسوانا. يوماً سألت نفسي، أنا، بهذه القدرات المحدودة والعلم المحدود واللياقة المحدودة، أكان ممكناً في بريطانيا أو في ألمانيا أو في فرنسا أن أكون رئيس تحرير مجلة أسمها الثقافة الأجنبية تعنى بثقافة العالم وفنونه وبعلوم اللغة وتاريخ الأدب والنقد؟ نعم، قد أكون أفضل من غيري، أو المتيسر في الوسط الذي انتمي له، لكن هل أكون في تلك البلدان المتقدمة رئيس تحرير لمجلة مثل تلك؟ كلا، وحتى صعب أن أكون محرراً! هي نعمة التخلف يا اصدقائي الناكرين للـ "نِعَم"! يوماً كنت في كورس في اللغة والأدب في لندن: وطبعاً كنت ممتلئاً مباهاة كوني شاعراً عراقياً ومترجماً ويكتب مقالاً وله كتب مطبوعة... إلخ. الطلبة معي من بلدان مختلفة، أنا الوحيد من العراق، والعربي الوحيد. كان يدرّسنا، أو يحاضر علينا في الشعر استاذ اسمه دكتور بلاك. وما دام درساً في الشعر، فهذا يمنحني فرصة للبروز أو للتألق أو في الأقل للتميز بين من حولي. أصارحكم، كنتُ الأقل ثقافة في الأدب الحديث وفي اللغة والأساليب، ووجدت نفسي بين بعضهم مثل طالب كسول أخشى أن يوجّه لي الاستاذُ سؤالاً! والحمد لله، الذي يطالني كرمُهُ تعالى في كل موقف حرج، يوماً كان الاستاذ يدرس قصيدةً للشاعر الانجليزي أودن Auden ووردت في القصيدة جملةٌ مربكة، مشكوك في دقّة، في صواب، ما يقول به الشاعر. قال الاستاذ: فرصة أن يكون بيننا شاعر عربي من العراق نستعين به، وسألني: هل صحيح أن العرب يسمون التواليت بيت الله، كما يقول أودن في قصيدته؟ و"وين تروح يا تارك الصلاة.."، لكن الله سبحانه، الذي ينقذني وبه استعين، ألهمني تلك الساعة بجواب قلت: يا استاذي وزملائي، العرب أصحاب دين ولياقات اجتماعية وآداب وليس كما تظنون أو يظن بعضكم. وللجواب عن هذا السؤال، أقول: إذا كان المقصود هنا هم العرب القدامى، أو عرب الصحراء، فهم يسكنون الخيام. وإذا احتاج أو اضطر أحد لقضاء حاجته يخرج من الخيمة إلى الفضاء المفتوح، إلى الأرض خارج الخيمة، والأرض خارج الخيمة، ليست ملك أحد، العالم والكون ملك الله والأرض بيت الله الكبير وملكه..
وهنا ابتهج استاذ الشعر، وقال حسناً، هذا رأي جيد ومنطقي، فلا الشاعر أخطأ، ولا العرب اخطؤوا! والغريب أننا في المدن العراقية، وحتى اليوم ثمة من يسمي التواليت "الخلاء" ومعناها كما تعلمون الفضاء أو العراء.. مما أفرحني بسلامة اجابتي، فاستعدت إنسانيتي وحضوري، وأنا الآن موضع احترام.
ولكي نكمل حديثنا عن حسنة العيش في البلدان المتخلفة، أذكِّر هذا المدير وذلك المستشار، وذلك الخبير الاقتصادي، وذلك في الطاقة أو في هذه المؤسسة يديرها بذلك "الكمّ"، الذي لا يُحسد عليه من الخبرة والعلم.. إنهم يتمتعون بدرجات ورواتب عالية واحترام وجاه، ومخصصات وأبّهة، ولو كان واحدهم في بلد متقدم، لما حظي بنصف ما يحظى به الآن.
خلاصة كلامي: التخلف لصالح العديد منا ومن التخلف ثراؤهم ومنه، وبعونه يتقاضون ما لم يحصل عليه وزير بريطاني ولا رئيس دولة في سويسرا أو الدنمارك:
فاستحمدوا الله،
ولئن شكرتم لأزيدنكم
وبالشكر تدوم النعم
بقي لي سؤال، سؤالُ متغابٍ، هل صار واضحاً الآن لماذا لم تتقدم بلادنا، بالرغم من قدراتها وغناها وموقعها وطبيعتها ووفرة ناسها وخصبها والماء؟
واحد: لأن التقدم ليس في صالح الجميع.
اثنان: التقدم يعني ضرورات حياة مدنية أكثر. يعني استهلاكاً وعيشاً كريماً يعني أن نأخذ من خزينة الدولة أو، كما يقولون، نكلّفها أكثر، وهذا يعني إنقاص حصتهم!
ولماذا كل هذا؟ ابق بحصة تموينية ومت من دون أجور عملية جراحية، أو دون بيت. فالموت مما قدر الله على البشر، وأنت بين نوعين من الأقدار، أقدار الدولة وأقدار الله!