باسم سليمان
قد تكون المخرجة وكاتبة السيناريو جيد هالي بارتليت صاحبة فيلم "فتاة ميلر/ Miller’s Girl لعام 2024 " راهنت على الحصان الخطأ، على الرغم من أصالتها، فالممثلة الصاعدة بقوة (جينا أورتيجا) ذات الواحد والعشرين عاما، تلعب دور الفتاة (كايرو سويت) التي أتمت سن الثامنة عشرة/ السن القانونية للرشد.
وتستعد للانطلاق في الجامعة والحياة، والتي تسكن وحيدة في فيلا تعود لوالديها المحاميين اللذين يظلان في سفر دائم، عاشقة للقراءة وترغب بأن تصبح كاتبة لها سيرة حياة مميزة، مع أنها تعيش في بلدة منسية من ولاية تينيسي.
تدخل كايرو صف الكاتب المغمور جوناثان ميلر (مارتن فريمان) الذي تجاوز الخمسين من عمره، حاملة في يدها كتابه الوحيد والذي لم يقتنه أحد، إلّا تلك المدرسة التي يدرّس فيها الأدب، وتحمل أيضًا كتاب هنري ميلر، المعروف بسيرة حياته الصاخبة
وخاصة في الأمور الجنسية.
هذا الدخول الاستعراضي لكايرو سمح لجوناثان بتجاذب أطراف الحديث مع تلك الفتاة الغامضة، حيث تطوّرت الأحداث إلى إعجاب متبادل، ما أدى إلى أن يطلب جوناثان منها كتابة قصة على وفق أسلوب ميلر، مع أن تدريس هنري ميلر في الصفوف الثانوية ممنوع لجرأته غير المعهودة.
لقد كان جوناثان كاتبًا فاشلًا، وللحقيقة كان مقتنعًا بذلك. وعندما عُرض عليه تدريس المواد الإبداعية، قبل بسرور، فمن وجهة نظر معينة، سيسمح له هذا العمل بتقمّص شخصية الكاتب، عبر تقديم النصائح للطلاب الذين يودّون أن يصبحوا كتابًا.
لقد كان من الممكن أن تمضي الأمور مع جوناثان بهدوء لولا لقاؤه بكايرو. تنجز كايرو الوظيفة، وتكتب قصة يختلط فيها الواقع بخيالاتها الجريئة عن جوناثان، وعندما يقرأ ما كتبت يتورط بأحلام جنسية عنها. وهنا يستيقظ ضمير جوناثان الاجتماعي لأسباب عديدة، وخاصة لناحية الفرق العمري بينهما، فيرفض قصة كايرو، ما يدفعهما لمواجهة عدائية، تنتهي بتقديم كايرو قصتها إلى إدارة المدرسة، وبالتالي استجواب جوناثان لإغرائه شابة صغيرة.
قلنا بداية، بأنّ بارتليت راهنت على الحصان الخطأ، فصغر سن أورتيغا، إلى جانب عمر فريمان الكبير ومطابقة ذلك لأعمار أبطال الفيلم سببت ردة فعل الجمهور، الذي رأى بتصوير العلاقة بين معلّم وطالبته تجاوزًا للحدود، وليس مثالًا صالحًا للأجيال الشابة، ومن جهة أخرى حددت قدرة المخرجة على الغوص في نفسية البطلين، فكايرو كفتاة شابة تريد أن تجرب الحياة بالطول والعرض، حتى لو كان عبر فضيحة، مثل كاتبها المفضل هنري ميلر، أما جوناثان الكاتب الفاشل الذي يتهيب دفع الأثمان في الحياة والخيال، وعلى الرغم من أن كنيته تطابق كنية الكاتب هنري ميلر وهذا مقصود من المخرج، إلّا أنه يأخذ دور الرقيب ضد ما كتبت كايرو، بعدما لامست دواخله العميقة، ومن هنا نفهم سبب فشله، بأن يصبح كاتبًا، فهو هاملت عصري.
عودة إلى الحصان -الخطأ- جينا أورتيغا، لا يمكن للمخرج إلّا أن يكون منتبهًا للمقارنة التي ستحدث بين الممثلين في الواقع وشخصياتهم في الفيلم، فكايرو/ أورتيغا، قد تجاوزت الثامنة عشرة، فلماذا تكدّر
الجمهور؟ لقد كان جوناثان معجبًا بجرأة هنري ميلر اللامتناهية، لكنّه رفض جرأة كايرو الأنثى، مع أنها بدأت بالكتابة واقتحام المسكوت عنه بالعمر ذاته الذي بدأ به هنري ميلر. بدأ ميلر في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين بنشر كتاباته، كذلك كايرو، لكن في القرن الواحد
والعشرين.
قرن مضى وما زال المجتمع يتقبل جرأة الرجل ويحجبها عن الأنثى، أين في أميركا! والآن نعود إلى فكرة الحصان – الخطأ- ونقول بأنّه الحصان الذي سيعبر أولًا خط النهاية، إذا قُبل بجرأة طرح بارتليت،
لكن...!
ما أراد بارتليت قوله، بأنّ المجتمع الذي يدّعي الحرية مقيّدٌ بقضايا أكثر خطورة من الأعراف التقليدية التي نصفها بالتخلّف، فوالدا كايرو في لهاثهما وراء مصالحهما المادية أهملا ابنتهما الوحيدة في سن خطرة، بينما زوجة جوناثان مشغولة بأعمالها لدرجة لا تجد وقتاً لليلة حميمية معه، بينما جوناثان يعيش في فصام، فهو تارة يشتهي أن تكون له صفة الكاتب، لكنه يرفض أن يدفع ثمن الخيال، بينما يعلّم الإبداع لطلبة يحلمون بأن يصبحوا كتابًا، فما هذا التعليم الذي سينتج عن مدرس متناقض بين ما يقوله وما يمارسه، فعندما أتيحت له فرصة الحياة مرة أخرى، انسحب من المغامرة، وهنا نفهم ردة فعل كايرو بالذهاب نحو الفضيحة، ليس لأنّ جوناثان رفض إقامة علاقة معها، أو تهرّب منها، فهذا ظاهر الأمر، مع أن الكثير من الإشارات في الفيلم توحي بذلك، لكن لرفضه قصتها، التي تشبه أسلوب ميلر وجرأته، خاصة أنّ اسم البطل كان في القصة جوناثان والفتاة كايرو.