البنائيَّة واستثمار طاقة التحوّل الجَمَالي

ثقافة 2024/09/17
...

 خضير الزيدي 


شهد كاليري البيت الأزرق في دمشق إقامة معرض النحاتين السوريين، وضمَّ أعمالاً متنوعة الأحجام والاشتغالات الفنيَّة المختلفة لأسماء أخذت على عاتقها الاهتمام بالفن السوري والارتقاء به في ظروف زمنيَّة محرجة بات فيها القتل والحرمان وآثار الحرب ظاهرة في كل مفاصل سوريا. 

ولعلَّ الملفت هنا رغم كل الجراحات ثمّة أمل في الحياة، والدعوة لرؤية الجمال، وقد تحقق وجود أعمال نحتيَّة بارزة مثلت في الحقيقة تطلّعاً فنيّاً راقياً مع تعدد الخامات. فقد رأينا الاشتغال على البرونز والعمل على الخشب والمرمر وأساليب للتركيب، وكل هذه الأعمال أخذت حيزاً ملفتاً من خلال تعدد المدارس التي وجدناها أقرب للتعبيريَّة والأسلوب التجريدي الخالص، فما الجديد الذي احتوته البيت الأزرق؟

تبنت إقامة المعرض المشترك مجموعة مختلفة من الأجيال الفنيَّة، ممن انتبهوا إلى تجديد معالم النحت، وكانوا أكثر انفتاحا على التصورات الذهنيَّة والجماليَّة التي يدعون إليها من خلال خطاب الحداثة مثل "غاندي خضر، ومصطفى علي، وغزوان علاف، وابي حاطوم، وفؤاد دحدوح، وحسام نصرة، وفؤاد ابو عساف، وزيات قات، وزكي سلام، وأيمن حميرة، وريدان منذر، وهادي عبيد، وعلا هلال، وغسان صافية، ويعقوب ابراهيم، وعماد كسحوت" 

وغيرهم.  

كلُّ هؤلاء باتت جهودهم متواصلة تهتم بنزعة الحداثة من أجل إحياء فن تعبيري يقترب بحميميَّة من المتلقي، ولعل الالتقاء جاء لاعتقاد مفاده أنَّ النحت أكثر تطلّعاً في اقتفاء أثر الموضوعات الملتهبة في المحيط العربي وقضايا الأمة، ومنها منح الآخر حريته في التعبير، علاوة على مفاهيم الشهادة وقضايا الإنسانيَّة التي تظهر جليّاً أمام ماكينة القتل والتشريد وحرب الجماعات المسلحة. فهذا المعرض تميّز بالتنوّع مثلما تميّز بحساسيَّة الطرح المعرفي والجمالي، وقد بدت المنحوتات وكأنّها سلسلة جماليَّة تصطف أمام أعيننا بما تصلح لتكون وثيقة احتجاج على الدمار. ويحدث أن يشاهد المتلقي اختلافاً في الأساليب مع انطباع تتضح فيه معالم الدقة والعناية والمهارة في طرح العمل الفني، فهناك طرائق أقرب للتشخيصيَّة كانت حصيلتنا التأثير المباشر في المتلقي وأيضاً سنجد ضرباً من النحت الغريب من خلال التجريد. 

وينبغي الاعتراف بأنَّ المعرض تجلّت فيه اتجاهات فنيَّة مختلفة لكنّها في حقيقة الأمر تدعونا للتأمّل ومراقبة خطاب كل منحوتة ظهرت فيه ونستدلُّ هنا أنَّ النحّاتين السوريين افترضوا مبدئياً وجود مسار للجدل في الأسلوب ولكنّهم اتفقوا على وحدة موضوعيَّة تنطلق من حكم جمالي لتتناسق الأعمال وتتسامى على خيال يجذب إليه كل من تابع إقامة هذا المعرض.

لا يتعذر لدى المتلقي عدم الفهم الحقيقي لخطاب النحاتين ولا طريقة تعاملهم مع الخامات المختلفة لكون التعالُق والتكافؤ في إنجاز الأشكال بات فكرة يسعى إليها النحّاتون ومن المفيد أن نجد أنَّ مزاج النحّاتين تختلط فيه إرادة الإبداع مع ضرورة النجاح في إقامة هكذا معارض. ومن هنا تتكشف لنا الأشكال عن أهميتها من حيث البنائيَّة واستثمار طاقة التحول الجمالي المثير والذي لعبته سرديَّة الأشكال ومضامينها، فلقد وجد الفنانون أنفسهم أمام حركة فن لا تقبل المساومة، لهذا بدا خطاب منجزهم يمنح العمل قدرة في التواصل أمام المتلقي، مع أننا نجد أعمالاً صغيرة وأحجاماً كبيرة.. ولكن ما يلفت انتباهنا يكمن في الاستعارات وحقيقة وصدق العمل النحتي وتحديد إجراءات الاتجاه الذي يدعون اليه للتعريف بالفن السوري. هؤلاء النخبة من فناني سوريا تعاملوا مع الفن بأدق التفاصيل وبينوا للمتلقي مدى حماسهم في انتصار الجمال أمام قبح الحروب ومثلت أساليبهم المختلفة ظاهرة بناءة تتجلّى فيها حقيقة نزعة الفن وتمثيله بصدق من دون ايجاد ثغرات تحد من دوره 

الإبداعي.