جذورُ الحكاية: النّصُّ المسرحيُّ والشّجر

ثقافة 2024/09/17
...

  عباس منعثر 

 

يمتازُ النصُّ المسرحيُّ بثراءِ التشبيهات، إذ يُقارَنُ عادةً بالرِّحلةِ أو اللوحةِ الفنيّةِ أو البنيةِ الهندسيّة. وهو إلى ذلك، نسيجٌ متعددُ الطبقات، تتشابكُ فيهِ الإحالاتُ والتفسيراتُ الفلسفيّةُ والفنيّةُ، مما يجعلُهُ حقلاً خصباً لإضافةِ المزيدِ من التصوراتِ النّظريةِ المُستحدَثة.

النصُّ المسرحيُّ شجرة. تستمدُّ الشّجرةُ غذاءَها من التربةِ لتُزهرَ وتُثمِر، ويتغذى النصّ من الواقع، ناقلاً التجاربَ الإنسانيّةَ من الجذورِ عبرَ الجذعِ أو الهيكلِ الدّرامي إلى جميعِ مفاصلِ النصّ وأعمدتِهِ الأساسيّة. بذلك، تعكسُ الحبكةُ التقليديّةُ الجذعَ الثابتَ الذي يسيرُ بخطوطٍ واضحة؛ وتتشعّبُ الدّراما الحديثةُ كالأغصانِ المتفرّعةِ لتستكشفَ أشكالاً وتجاربَ جديدة؛ في حين أنّ المونودراما تعتمدُ في صغرِ حجمِها واستقلاليتِها على جذعٍ صغيرٍ يسندُ الشّجيرةَ الفرديَّة. وكاختلافِ الأشجارِ في تنوعِها وكثافتِها، تنمو النصوصُ المسرحيةُ وتتفرّعُ بوسائل تعكسُ تأثيراتِ بيئتِها، محوّلةً كلَّ نصٍ إلى كائنٍ حيٍّ يمرّ بالولادةِ والحياةِ 

والموت.

كلاهما، النصّ المسرحيّ والشّجر، يتأثرانِ بغنى أو فقرِ البيئةِ المحيطة، وبرشاقةِ أو تكلّسِ السّياقِ الذي ينشآن فيه. ومثلما تتغيرُ الشّجرةُ بتأثيرِ الظّروفِ المناخيّة والتربةِ الخاصة، يُخاطبُ النصُّ تلكَ الهمومَ ذات الطّابعِ الآني بالضّرورة، أي التي يفرزُها الفضاءُ التاريخيّ، وستـأتي الأزمنةُ الجديدةُ بالمصادقةِ على خلودِ هذهِ النصوص أو موتِها مع الظّروفِ التي 

أنتجتْها. 

العنصرُ غصن. فالمَشاهدُ والمكانُ والتتابعُ الزّمني هي أغصانُ النصّ المنتشرةُ في اتجاهاتٍ عديدة، وما أن تتعددَ الأغصانُ حتى يطول عمرُ الشّجرة. كلُّ غصنٍ يحملُ سراً ويدعو إلى التأملِ والاكتشاف. فغصنُ المكانِ يُضافُ إلى غصنِ الزّمانِ ويعملانِ كحاملٍ أو حاويةٍ للمَشاهدِ واللوحات. وعلى الرَّغمِ من اختلافِ مساراتِه، يصلُ الغذاءُ إلى جميعُ الأغصانِ، فيكتسبُ النصَّ وحدةً موضوعيةً تناسبُ هيكليتِه، وهكذا تتفرّعُ وتتشابكُ أحداثُ النصّ بطرقٍ غير متوقعةٍ، مانحةً النصَّ أسرارَ الغابةِ كثيفةِ الشّجر.

وفي علمِ النبات، تقومُ الأوراقُ بالتنّفسِ، وتنظيمِ الماء وتخزينِ المواد الغذائية، وتحويلِ الضّوءِ إلى طاقة، فضلاً عن اعطاءِ صيغةٍ جماليةٍ تُفرّقُ الشّجرةَ عن غيرِها من الأشجار. فالحوارُ بجماليتِهِ اللغويّةِ والتركيبيّةِ والدّلاليّةِ؛ والشّخصياتُ بأبعادِها النفسيّةِ والاجتماعيّةِ والثقافيّةِ؛ وطبيعةِ الحركةِ والصّراع، هي أوراقُ النصّ التي تُسهِمُ في تجهيزِهِ بالطّاقةِ والأفكارِ وتُثريهِ بجمالٍ يُميّزهُ عن بقيةِ النصوص.

الفكرةُ بذرةٌ ينثرُها الخيال. قد تكونُ البذرةُ زلّةَ لسانِ طفلٍ أو صرخةَ مجنونٍ أو رؤيةً فلسفيّةً، ولا يهمُّ مصدرُها أو زمانُها أو مكانُها. بعدَ أن تُلتقط، تنمو الفكرةُ البسيطةُ تدريجيّاً، تماماً كما تنبثقُ الشّتلةُ من تربةٍ خصبة. بمساعدةِ الماءِ والشّمس، ومع مرورِ الوقت، يتطوّرُ النصّ وتتكشفُ معانيهِ كتغيّرِ الشّجرةِ بين الفصول. وبينما يُشكلُ الفضاءُ نسيجَ النصّ الأساسيّ، تتفرعُ الأفكارُ وتنضجُ وصولاً إلى التحققِ الكامل.

المغزى ثمرةُ النصّ. إنّ خلاصةَ تفاعلِ الفيتاميناتِ والأملاحِ والمعادنِ في الشّجرةِ تتمثّلُ في فاكهةِ النصّ التي تنتجُ من تفاعلِ الشّخصياتِ والصّراعِ والحوار. كلُّ عناصرِ النصِّ تتكاتفُ لتحقيقِ الأثرِ النهائي. وعلى نحوِ ما تُثمرُ الشّجرةُ في اثناءِ دورةِ حياتِها، يصلُ النصّ المسرحيّ إلى ذروتِهِ، كاشفاً عن رسالتِهِ المركزيّةِ بتآزرِ مقولاتِهِ الجزئيّة. مع ذلكَ، قد يلتبسُ الغموضُ في تعيينِ البؤرةِ التي تجمعُ حيثياتِ النصّ الى نقطةٍ محوريّةٍ تحسمُ الجَدَل. هذهِ النهايةُ ليستْ مجرّدَ ختام؛ بل تمهيدٌ لثمارٍ طازجةٍ، محمّلةٍ ببذورٍ جديدةٍ وتفسيراتٍ متعددةٍ تتوالدُ بمضيّ الزّمن.

وبما أنَّ النصّ يُشبهُ الشّجرة، فإنَّ حياتَهُ تعتمدُ على تغذيتِهِ بالخيالِ والمعرفةِ واللغةِ والتجربةِ الإنسانيةِ العميقة. على هذا، يزدادُ الاطمئنانُ إلى أنّ النصّ سيجتازُ ما يُحتملُ أن يواجهَهُ من المحيطاتِ والصحارى والعواصفِ والجفافِ، بدعمِ شكلٍ إبداعيٍّ وهويةٍ فريدةٍ قادرةٍ على التكيّفِ مع مختلفِ المتغيراتِ والمستجدات.