عقائد الشعر المؤلمة

ثقافة 2024/09/18
...

أحمد عبد الحسين

أحسد الذين “يكتبون” الشعر، وكم وددتُ أنْ أكون مثلهم.
في أوليّاتي وأنا بعدُ صبيٌّ كتبتُ قصيدةً اسمها “عقائد موجِعة”. وحين نشرتُ كتابي الأول أسميته “عقائد موجِعة” برغم أنه لم يتضمَّن القصيدة إيّاها. ولمّا أردت نشر كتابي الثاني أسميته “عقائد موجِعة 2” لكنْ نهرني أصدقاء فنهرتُ نفسي وأبدلت العنوان. كنت أخافُ من ضحك الناس عليَّ وإلّا فإني في صميمي أحبّ أنْ يكون كلّ كتابٍ لي عقائد موجعة. ثمّ حين أصدرتُ كتاب مختارات لي سنة 2009 أسميتُ الكتاب “عقائد موجعة”، وحين نشرتُ كتابي “دليل على بهتان العالم” وضعتُ فيه قصيدتي، قصيدة الصبا تلك التي لم تكنْ قد نُشرتْ مِنْ قبلُ، أخرجتها أخيراً بعد ثلاثين سنة من كتابتها. ولمّا أصدرتُ ترجمة لقصائدي بالإنكليزية أسميت الكتاب Painfull Creeds .. نعم عقائد موجعة.
ليس العنوان فريداً ولا مميّزاً. ويمكنُ أنْ تعثر به العينُ وتتخطاه بيُسرٍ، لكنّه خلاصةُ ما أنا فيه منذ ولدتُ.
عقائدي موجعة. لي عقائد مؤلمة عاجز عن قولها شعراً ونثراً وغمغمة وبكاء.
كتبتُ في قصيدتي القديمة:
(عقائدي مؤلمة
ولا أستطيع التحدث بهذا في الناس).
ويتهيأ لي دائماً أنَّ جملة قلتُها في صباي أوجزتْ حياتي وحدّدت لي الوجهةَ التي سأسلكها إلى أنْ أغمض عينيّ؛ وأني لم أحترس من الخطر الذي في الشعر، هذا الذي يجعل كلّ عبارة تكتسي مصيراً.
أبداً، لم يكن الشعرُ عندي “كتابة”، وأحسد الذين يكتبونه. كنتُ طوال حياتي “طفلاً لاعباً باللاهوت”، والشعر لعباً بالمصير، طاولة يقامر عليها الضالون، يقامرون بأرواحهم ودائماً يخسرون. كلّ تدوين شعريّ له علقة متصلة بالتكوين، وأيّة ثنية هنا في الحرف سينحرف لها بساط العالم الذي هو عالمي، وأتعثر. ومع كلِّ كلمة سأخسر خمسين عاماً من الحياة مقابل حفنة كلمات، بينما حقيقتي هناك، لا في الشعر بل في ما يتستّرُ عليه الشعرُ، في غيب الغيوب الذي يزدريه الجميع.
حقيقتي في عقيدتي المؤلمة التي لا تقالُ ولا أستطيعُ الخروجَ بها إلى الناس.
ليْ عقائدُ موجعة. ويوماً ما، قبل أنْ أعيدَ وجودي إلى موجده، سأقولُ كلَّ ما منعني الشعرُ أنْ أقوله. سأقول ما فعله الله بي، بل سأقول اللهَ، وحينها، كلُّ الذين “يكتبون” الشعرَ سيضحكون، وكلّ الذين شغلهم الله سيبكون، وسينزوي عارفٌ مفردٌ شابٌّ في مقتبل العمر واجماً لا يضحك ولا يبكي.
فإليه وحده أقول:
تمنيت لو أني “كتبت” الشعر كما كتبه الشعراء، ولكنْ هيهات. فأنا لي عقائد، وعقائدي موجعة، ولا أستطيع التحدث بها في الناس!