سنا أتاسي العيون مواعيد فرح مؤجّل
غازي عانا
“مرآة الروح” معرض سنا أتاسي المشغول بعناية فائقة ورغبة بالإفصاح عن ذات الفنانة جسداً وروحاً، والأهم برأيي تلك البلاغة والفصاحة في اللغة التشكيلية المستخدمة بالصياغة التي اعتمدت فيها على الواقعية كرسم وعلى التعبيرية الرمزية باللون والدلالة عن الموضوع الذي يفيض بزحمة الأفكار الفائضة عن الواقع، إنه الحلم بامتياز والأمل بعد حنين، وربما حتى لا تتحوّل الأحلام هنا إلى مجرّد أوهام وخيالات خلال فترة التحضير للمعرض وإنجازه، أمضت الفنانة ثلاث سنوات وأكثر بين ضرورة الإفصاح عن اللون أم الخط كأهمية حضور بما يخصّ روحنة العناصر في اللوحة.
وهنا نلاحظ مدى نجاح الفنانة في التوفيق بين خصوصية المعنى كموضوع وحلاوة المغنى كتأليف وأناقة سرد وحضور لشخصياتها، أو شخصية أي امرأة كحامل لهموم وذاكرة المجتمع، وهي نجحت هنا أيضاً بتناغم العلاقة بين إغراء الأدب وجماليات التشكيل كحالة تعبيرية صرفة. أدبياً هي شرّحت الحالة بما يخصّ عنوان المعرض “مرآة الروح”، حين أفصحت الفنانة عن بعض هواجسها: “أصبحنا قديسي الموت بين تلك النزاعات اللامتناهية التي سرقت منا الماضي مثلما الحاضر، أنهكت أجسادنا وأرواحنا، أصبحنا أشبه بصقيع يذوب في نار الشمس، هناك حنين يسكننا، نشتاق لمدن أصبحت محترقة، كانت هناك عائلة خانها الموت ومنها رحلت بعيداً عن أرض الزيتون، نشتاق لجلسات العائلة للحظة حب، السلام غادرنا ونحن نضيء بالحياة، أصبح الزيتون محترقاً غارقاً في بحر من الدم، ومدننا أصبحت وحيدة خالية منا، يعصف فيها الدمار والوحدة وبعض الذكريات”. هذه كانت بعض الأفكار التي شغلت الفنانة خلال الفترة قبل المعرض، فقرّرت الاتكاء في معرضها على الأدب من خلال سردها أو توثيقها لبعض المشاهد من الواقع المُعاش في هذه المنطقة السورية وفلسطين بخاصة خلال فترة الحرب التي ما زالت مستمرة في كل منهما بطريقة اختلفت فيها عن نمطية الحروب التي شهدها العالم منذ الجاهلية إلى اليوم.
اختارت الفنانة “المرأة “عنصراً أساسياً وبطلاً سيّداً تعكس من خلاله كل تلك الدلالات لما تعنيه من رمزية منذ كانت آلهة قبل خمسة آلاف عام إلى يومنا هذا الذي أصبحت فيه شاهدة على العصر المشرف على حافة الانحطاط من جديد. اختارت الفنانة للوحاتها عناوين (جلسة فلسطينية، ليلة قمرية، بحر الدم، عشق، شوك، وتفاحة متعفّنة.. إلـخ)، بالإضافة إلى تضمين كل عمل مفردة أو أكثر شديدة الوضوح برمزيتها ومتفرّدة بدلالاتها، أغصان الزيتون، الرمّان، التفّاح، السكاكين، الديك، ومفتاح العودة وغيرها من الأشياء والعناصر التي تُفصح عن خصوصية الموضوع مانحة المشاهد مسافة أو فسحة للتأمّل وجرعة من الأمل الذي لا تتخلّى عنه الفنانة المرأة بسهولة وإن خانتها بعض المشاعر كالخوف، الغربة، الفقد والتشرّد وغيرها الكثير من المعاناة، كل هذا قدّمته سنا أتاسي بحبّ شديد ورغبة في الصمت على شكل بوح يتدفّق من العيون حزناً ممجوجاً بمواعيد مؤجّلة لفرح قادم يظهر بوضوح من خلال الرسم الجيد واللون الأحمر، الأزرق والأوكر مشتقّ الأصفر)، وجميعها متوهّجة وصريحة لعناصر المشهد كافة التي تبدو بنفس الأهمية أينما استقرّت في اللوحة، وهذه ميزة تُضاف لقيمة العمل الذي لم يهمل أي تفصيل رغم الاختزال الشديد الذي تتسم به أعمال المعرض بعد أول مشاهدة. وهنا برأيي لا بدّ من الإشارة أو الإشادة بتفرّد الفنانة بصياغات اللوحة التي أصبحت قبل فترة ليست قصيرة تخصّها دون غيرها من الفنانات والفنانين في المشهد التشكيلي السوري، وهذه ميزة تُضاف إلى أهمية التجربة التي بدأت ممارستها مستفيدة من خبرتها بثلاث اختصاصات (الإخراج السينمائي والتصميم الغرافيكي والديكور الداخلي)، لتتسم لوحاتها بأناقة حضورها بدءاً من التأليف المحسوب بدقّة وعناية في الرسم والتلوين حتى الإخراج واستقرارها في المكان (جدار صالة العرض)، الذي يضيف له أهمية وفخامة، ومكتسباً منه بهاء حضوره وقيمة بصرية مضافة للقيم التعبيرية والتشكيلية المُتضمّنة في اللوحة بالأصل. مثلما تهتم الفنانة سنا أتاسي بأناقة حضور لوحتها في المعرض الفردي أو الجماعي، هي تهتم أيضاً بحضورها الشخصي اللافت والأنيق الذي لا بدّ أن يتناغم مع أجواء لوحاتها وشخصياتها التي استحضرتهم وكأنّهم من نفس العائلة يشبهونها كثيراً مثلما يشبهن بعضهن، فتكمّل معهن الحكاية عندما تتحدّث عن موضوع كل لوحة وظروفها والحالة التي قدمت فيها نساءها على هذه الشاكلة من فيض التعبير وجماليات الحزن وكأنهنّ يتحضّرن للاحتفال بالنصر والعودة، تحمّل كل منهن عنصراً رمزياً يؤكّدن من خلاله حتمية إنهاء الاحتلال والعيش على أرضهن بسلام. تبدأ الفنانة عرضها بلوحة كبيرة لشجرة زيتون من عمر النكبة على أقل تقدير، يعكس العمل في الأفق بقايا مدن تعلوها غيوم ملبّدة بغضب السماء على عصابة ما زالت تحاول اقتلاع الإنسان من هذه الأرض المباركة مثلما فعلوا مع أشجار الزيتون والبرتقال التي بقي بعضها صامداً يتكئ على أرض ما برحت ترتوي بدماء الشهداء. عرضت الفنانة سنا أتاسي بحدود خمس عشرة لوحة وبمقاسات كبيرة نسبياً بغاليري (جوليا آرت) دمشق، والتي نجحت في سعيها لتقديم خلاصة روحها التي بثّتها بأناقة على شكل بوح صادق ورسائل غضب واحتجاج على ما يجري اليوم ومنذ ستة عقود على أرض فلسطين وبشكل مختلف في أكثر من منطقة بالعالم العربي وبالأخص ما حصل في سوريا مؤخّراً وما زالت أثاره إلى اليوم، هذا الشكل من التعبير الذي أرادته رمزياً بأزياء مصمّمة خصّيصاً لتلك النسوة اللاتي يتحدّثن إليك بصمت الشفاه وضجيج العيون الواسعة كل هموم الوطن ودموع مدّدت فيها ألوانها التي انطفأت هناك عند الأفق حيث بقايا مدن وحكايا بطولات تعلق في الغيوم وتهطل مع كل مطر لتستقر في الذاكرة الحيّة لشعوب المنطقة تتوارثها الأجيال بالتقادم.
“مرآة الروح”.. معرض انتهى قبل فترة قصيرة في دمشق ولم تنته أصداؤه الإيجابية التي ستبقى طويلاً في الذاكرة، أولاً كون لوحات المعرض بمجموعها تحمل كل منها مجموعة قيم تعبيرية وتشكيلية رغم رجحان كفّة الأدب بمعظم اللوحات والتي لها عناوين لترشد المتلقي إلى غاياتها، على الرغم من وضوح كل من الرؤية البصرية والرؤية الحلمية والروحانية وبدون جهد في كل منها، بسبب الرسم الجيد والمتين والألوان الصريحة والنظيفة التي استخدمتها دائماً، هذا بالإضافة إلى نجاحها في روحنة معظم عناصر المشهد في كل لوحة على حدة، وللإنصاف هذه الميزة برأيي تُحسب لها ولمقومات وأسباب نجاح المعرض وتميّزه خلال هذه الفترة من العروض في العاصمة دمشق. وأخيراً وليس آخراً لا بدّ من الإشارة هنا إلى صدق قناعة الفنانة بما تريد شفاهية قوله حول المعرض وحيثياته تمنح قيمة ونقطة إلى نجاحه كعنصر مهمّ، كون الفنان دائماً يكتفي بما يريد أن يقوله في المعرض من خلال ما قدمه في اللوحة لينتهي دوره بالتوقيع عليها: (بالرغم من حالة الضياع العامة التي نعيشها جميعنا، لكننا مستمرون، دون معرفة وجهة طريقنا).
معرض (مرآة الروح) لسنا أتاسي شكّل محطة بصرية ممتعة ومؤثّرة سيبقى في ذاكرة سلسلة معارض دمشق المميّزة.