ميثم الخزرجي
إنَّ التمثلات المعنية بطبيعة الكائن البشري بتحولاتها الإيديولوجية والإنسانية تمثل جزءاً فاعلاً من الوجود الواعي بحسب تعبير سارتر، بغضِّ النظر عن الاعتبارات القيمية والمعرفية لها، وقد نستكشف أنَّ استحصال الوجود الإنساني وحيازة قدره يأتي عبر التعاطي مع موجودات المحيط لتكون عملية ارتباط كلي يعرف أحدهم عن طريق الآخر لتتجلى الذات المؤثرة التي تتسق مع المدركات الحسية للإنسان نفسه ورؤيته للواقع وعلاقته مع المتواجد على السطح، ما يعنينا هنا كيف نثق أنَّ الذات الواعية تدرك وجودها عن طريق الآخر؟ وهل بالضرورة أن يتفاعل الموجود بذاته مع ماهية الآخر ليعطي برهاناً على الاعتبار القيمي له؟ كيف لنا أن نعي الصلة بين اعتبارية الإنسان بوصفه جنساً بشرياً صاحب إرادة باستطاعته أن يدير شأنه بنفسه وبين محيطه الدائر؟ هل ثمة شعور قصدي ودوافع مضمرة تصيّر الإنسان على أن يضيء جوهره؟ وهل أنَّ هناك صلة بين جوانية الكائن البشري ومؤثرات واقعه ليصل عن طريقها إلى منزلة لها نسيجها الأمثل؟ هل الواقع يعيّن قيمة الإنسان وينير كيانه؟ وهل أنَّ سمة الحرية التي يستشعر بها دلالة على واعز نفسي وتحريض نسقي لاستحواذ وجوده مستدلاً من خلالها على اعتباريته؟ ما هي العلاقة الحقيقية بين السمات السيكولوجية مثل الكآبة والتشاؤم، الحزن، الشجاعة، والقدرة على التعاطي مع مجريات الواقع بالنزوع الأنطولوجي المعني بالفرد والذي يسعى للحصول عليه؟ هل أنَّ مستجدات الأوان السياسي وانزياح السياق المجتمعي سبب كاف للبحث عن هوية حيوية يتفاعل عن طريقها مع أبناء جنسه أو مع المحيط الخارجي؟ ما السبب الجوهري الذي يدفع الإنسان لتدبير هويته القيمية؟ هل أنَّ السؤال عن المصير والانتهاكات الإنسانية التي حصلت جراء الحروب الأثنية والعقدية فضلاً عن الابتكارات العلمية التي خففت من فاعلية الإنسان وحسرت من دوره القار، لها أثرها الواضح في إضاءة اعتبارية الإنسان أم أنَّ هذا النزوع رافقه منذ الولادة ونشأ معه وتضخم عنده إزاء مستحدثات العالم والذي صار جزءا من المنظومة الفكرية والمعرفية له؟ هل ثمة شعور فطري جُبل عليه الإنسان لتنقية وجوده من براثن العصر؟ وهل يتوقد هذا الشعور نتيجة الأزمات والانكسارات التي يتعرض لها؟ هل أنَّ المحيط الذي يولد منه الكائن البشري سبب في نشوء الأسئلة الإنسانية؟ وهل أنَّ السؤال بحدِّ ذاته مدعاة للعدم للوصول إلى إيفاء حقيقة الوجود؟.
حقيقة الأمر أنَّ تداعيات الاغتراب التي تصاحب هاجس الكائن البشري من أهم الأسباب التي حرضته للبحث عن وجوده، وقد جاء هذا نتيجة تلاشي الجوهر الفعلي الذي يرتبط بالأنساق النفسية المكونة لصيرورة الإنسان، وهنا تكون فاعلية الارتباط النسقي بين الهيأة العامة للجنس البشري بوصفه مادة حية تخلص للعيان وبين الفعل الفيزيائي الذي ينير الإنسان ويضيء قدره، فالاعتبارات الماهوية ترتبط بالجزء المادي على الرغم من تأخر نظامها الاستقرائي عند الفلاسفة الوجوديين، وهنا يكون الباعث الرئيس على اعتبارية كينونة الإنسان هو الجوهر ليتعالى في قدرة متجسداً ذلك كفعل شاهد للعيان فيما بعد، المسألة المهمة التي طرحتها الفلسفة الوجودية هي صورة التعامل الذي يبديه الكائن البشري مع الآخر، هل هو تعامل ماهوي أو مادي؟ وكيف ينظر للآخر على وفق الأبعاد النفسية الممسكة في تكوينه السيكولوجي؟.
واقعاً، أنَّ علاقة الوجود الواعي مع الموجودات هي علاقة ماهوية، أي أنَّ حلقة الوصل مع الآخر هي قصدية اعتبارية تخلص إلى الجوهر غير أنَّ هذه الماهوية يجب أن تكون موجودة أولاً كهيئة ملموسة لتتشكل صورتها الحية بحضور الدلالة الكائنة وهذا أكدته الفلسفة الوجودية في استبيان مسارها الجدلي، معتبرة أنَّ لكل شيء على سطح هذه المعمورة سبباً رئيساً في وجوده وحقيقة تخلص في جوهرها للواقع وقد عيّن سارتر وقبله هايدغر في (الوجود والزمان) هذه النتيجة باعتبارها النقطة الأساسية التي ينطلق منها الوجوديون، فضلاً عن أنَّ تهيئة النظام الثقافي الذي يرافق الإنسان جاء نتيجة ملابسات الواقع ليؤثر في تشكيل البنية الذهنية والنفسية الخاصة به والتي تتحكم في إبداء الأعمال الحياتية جميعها بل تنعكس سلباً أو إيجاباً على طبيعة البعد البصري والفكري حال التعاطي مع الآخر ومن ناحية إعداد الهوية النسقية وصياغة محتواها، وقد يعيّن هذا النظام نزوعه القيمي والإنساني، وهنا تتصدر لنا إشكالية أخرى تسند الباعث الأنطولوجي الذي استفهمنا عن غرضه، هل أنَّ الوعي هو المحرك الفعلي للبحث عن ملامح الوجود أم أنَّ الحياة الدائرة هي التي تقترح لنا هذه الأسئلة المشاكسة والتي تأتي متعاضدة مع حياة الفرد؟
بطبيعة الحال، أنَّ خطوات الشك التي تتسلل إلى جوانية الذات الواعية أحد أهم الأسباب المهمة التي تستدعي مجريات الحقيقة، الاستعداد للسؤال بأنساقه الميالة للمعرفة بغض النظر عن نوع المعرفة ومدى الحفاوة التي تقدمها، فقد جاء وما أعنيه بالسؤال، نتيجة واعز نفسي له أثره الواضح في قيمة الإنسان وزعزعة وجودة، ولعلي أجد أنَّ دافع السؤال هو المحرّك الرئيس لإشباع غريزة النفس البشرية التي أخذت بالتآكل، فقد انبثق نتيجة حفنة من الأزمات الدائرة التي تحيط بإنسان هذا العالم ومخاض الانحسار الكوني المروّع الذي بدد قيمته وجعل مصيره خارجا عن السيطرة، ومما لا شك فيه، ثمة أسئلة تعنى بصيرورة الكائن البشري تتفاقم كلما سار الزمن نحو الأمام وقد يعدّ هذا الأوان التكنولوجي بمستحدثاته الديالكتيكية وتقلباته السوسيولوجية سؤالاً عظيماً لتداعيات محنة الوجود التي أحاطت بالخلق.