ابتهال بليبل
كان جان دوبوفي ينظر إلى زعزعة الثابت في أفق مشروعه الخاص عبر طرح أعمال تقف منفصلة عن التيارات الأكاديميَّة الفنيَّة، وكشف الحياة الزائفة والعالم المضاد.
ففي عام 1916 اِلتحق جان دوبوفي (1901 ــ 1985) بمدرسة الفنون الجميلة في لوهافر بفرنسا. وبعد عامين غادر إلى باريس لدراسة الرسم. والتقى بـ “سوزان فالادون، وإيلي لاسكو، وماكس جاكوب” ورسم بأسلوب تقليدي يميل نحو الأكاديميَّة. ولكنَّه بعد ذلك تخلّى عن الرسم حتى قرَّر في عام 1933 العودة وبدأ في النحت. ولكن في عام 1937 ترك الفن مرة أخرى حتى قرّر في عام 1943 أن يكرّس نفسه نهائيّاً للرسم.
ومنذ البداية شرع دوبوفي الذي كان يرسم كلَّ شيء حوله «حد الصراخ والانهيار غاية في التنفس»، في طرح مجموعة هائلة من أعماله وهي بأشكال مشوّهة وألوان زاهية تتخطّى التصورات التقليديَّة عن الوجود، وتحطّم الفروض المسبقة التي تأسست عليها المدارس الأكاديميَّة الفنيَّة، وقد أراد، أن يحدث تأثيرات عنيفة وفعّالة في عالم خيالي يضع غرائز الإنسان كلها موضع التساؤل.
وجد دوبوفي الذي اهتمَّ بالسرياليَّة والفلسفة والأدب، وقرأ أعمال شوبنهاور ودوستويفسكي وبودلير في مشروعه “الفن الخام» الذي صاغه من الفولكلور الشعبي ونظريات علمَي الاثنولوجيا والطب النفسي، أدوات تصوريَّة للغضب الموجه إلى العقل والثقافة، ووجد فيه منهجاً يمكن أن يسلّط الضوء على فن الاستثناء الذي يربط الإبداع بالمرضى العقليين والبسطاء والأطفال بطريقة يمكن أن نكشف عن بساطة الفرد في هذا العالم المعقد.
ومما يحمل دلالة كبيرة لتعريف مشروعه «الفن الخام» أنّه أكثر من مجرد أعمال بسيطة، فهو يشير عبرها إلى صنفين منفصلين تماماً من الواقعيَّة واللا واقعيَّة، ويضع تصوراته التي تجسّد حياتنا في سياق جديد ومختلف، وخاصة بعد أنَّ «أدرك أن ملايين الاحتمالات للتعبير متاحة خارج الثقافة المقبولة».. هكذا يكون قد صاغ مذهباً خاصاً به كان قد اعتبره الكثير من النقاد بأنّه «فوضى واستفزازي».. لكن هذه الفوضى أعادت النظر في مفاهيم الوجود ذاته، داعية إلى فن «يتصل مباشرة في حياتنا اليوميَّة والحاليَّة».