عندما تكون مدينة شاسعة من الذكريات

ثقافة 2024/09/18
...

 توم ميلتزر
 ترجمة: عباس حسين جمعة

كيف يمكن للعقل البشري، الذي يكاد يضاهيه التعقيد نفسه، أن يتسع لحفظ جميع أبيات قصيدة "أنشودة البحار القديمة" البالغ عددها 626 بيتاً؟، لعل التقنية التي يستلزمها العقل لاستيعاب القصيدة واستحضارها تكمن في تشكيل صورة ذهنيَّة متقنة، وفقاً لما يفصح عنه بطل الذاكرة الأمريكي جوشوا فور.
أخبرت الكاتب جوشوا فور، ما أن تطأ قدمك عتبة منزلي الذي شهد طفولتي حتى ترى عيناً تتلألأ ببريق غريب مسندة إلى ساقين كرتونيتين، وتنسدل منها لحية رمادية طويلة. فغاص في تأمل عميق قبل أن يجيب: "هل تنمو اللحية الرمادية الطويلة من الفخذ؟"، وتبدو إجابته أكثر منطقيَّة، "إذ كان محقاً في ملاحظته.
اليوم يعلمني فور كيفية حفظ الشعر، إن الصور الذهنيَّة لديَّ هي الكائن الأسطوري ذو العين المتلألئة، واللحية وهو الرمز الذهني الذي يستدعي إلى ذهني البيت الشعري.

يفسّر فور قائلاً إن "جوهر هذه الرياضة" واضعاً كلمة "الرياضة" بين علامتي اقتباس، "يكمن في تحويل المعلومات التي يصعب تذكرها إلى صور بصريَّة تتسم بالغرابة والفجاجة والنفاذ والتأثير العاطفي بحيث يصبح من المستحيل نسيانها".
إن غايتنا اليوم أن نرسّخ في ذاكرتنا، إن كان بقدرٍ يسير، الجزء الأول من قصيدة "أنشودة البحار القديمة". ها نحن نتجول في حدائق امبانكمينت الواقعة في قلب لندن، على الضفة الشمالية لنهر التايمز، حيث يُعتقد أن الهواء العليل سيشحذ قدراتنا الذهنيّة، وأن المحيط الفريد بما يزخر به من تماثيل وبرك ونباتات في أصص والحضور المهيب لفندق سافوي الشامخ سيعمل في تناغم ليجعل من درسنا تجربة تنطبع بعمق في الذاكرة.
يروي كتاب فور "السير على القمر مع أينشتاين" رحلته كونه صحفياً وعلمياً وشاباً سريع النسيان إلى بطل الذاكرة الوطني
الأمريكي.
في فترة تقل عن سنة، يكتسب فور مهارة تدوين واستذكار الأسماء الكاملة لعدد وافر من الغرباء، علاوة على قدرته على استرجاع سلاسل طويلة من الأرقام العشوائية بسرعة. أثناء هذه الرحلة يلتقي فور بأسوأ فاقد للذاكرة في العالم (كيم-راين مان-بيك)، ومجموعة متنوعة من الرياضيين "الذهنيين" في مجال الذاكرة الذين يعيدون إحياء فن الذاكرة المفقود.
إنّها لفن يُكتسب بسهولة ويسر من الناحية النظرية في البداية يتم تحويل كل عنصر يراد استحضاره إلى صورة ذهنيّة غنيّة وفريدة في الذهن، تتسم بتفاصيلها الحسيَّة التي تشمل الطعم والرائحة والشعور. ثم تخزن هذه الصور، التي بصورة عامة تصبح أكثر تميزاً عندما تكون زاهية أو غير تقليديَّة، بترتيب معين في زاويا وركنيات قصر الذاكرة، وهو أشبه بمخزن مشيّد في العقل. إن أفضل قصور الذاكرة هي تلك الأماكن التي تزخر بالارتباطات والمعاني المتأصلة، لذا يبدأ المبتدئون مثلي عادةً بمنازل طفولتهم عبر تتبع مسار معين حول المتاحف السريالية، يستطيع المتمرّس في فن التذكّر عبر التدريب، باسترجاع آلاف الصور التي تضم  آلاف الذكريات.
إنَّ منهجيَّة "قصر الذاكرة" تستند إلى ملاحظة مفادها أن قوة ذاكرتنا المكانيّة تفوق بكثيرٍ قدراتنا على تذكر الأرقام أو الكلمات بمفردها. على نحو المثال قد يكون البيت الشعري الذي سعيت إلى حفظه في فقرة الافتتاحية قد تلاشى من ذاكرتك، وبقليل من الجهد، تستطيع أن تتذكر تخطيط كل منزل عشت فيه من قبل، بل وحتى منازل أصدقائك أو الفنادق التي زرتها لمرة واحدة قبل سنوات عديدة. ومن هنا جاء مفهوم القصور. أما الصور الحيَّة فهي تكاد تفسّر نفسها فكلما كانت الصور الذهنيّة أغرب أصبح من الصعب
نسيانها.
يقول فور إنَّ "وجود مدرستين فكريتين هي احدى الاستراتيجيات والتي تعد طريقة دقيقة جداً بالنسبة إلى ابطال الذاكرة الأوربيين".
على نحو المثال، إنَّ بطل الذاكرة الألماني غوثر كارسطن كان يعمل على تحويل كل كلمة في القصيدة إلى صور فريدة يبدو، وكأنه يحفظ كتيب تعليمات فيديو كاسيت. وأما فور كان يوصي بالأسلوب المغاير هو إنشاء صورة كدليل ذهني لكل بيت شعري، ويشير فور أيضاً إلى أن هذه الطريقة تتطلب منا إلماماً ولو بسيطاً لمضمون القصيدة.
أخبرت فور بأنّني أواجه صعوبة مع المقطع الثالث من القصيدة "يمسكه بيده النحيلة- كانت هنالك سفينة- يقول ابتعد أتركني أيّها العجوز المجنون وسرعان ما سقطت يده". بشكل جريء حاولت تخزين الأسطر الاربعة من القصيدة في ثلاجة المطبخ. أزلت مقبض الباب واستبدلته بيد مجعدة لرجل مسن متمسك بصلابة بكم بدلة رمادية لأحد ضيوف حفل الزفاف. أعلى الثلاجة يوجد غراب محنّط داخل سفينة حربيّة خشبيّة مصغرة بينما على رف داخل الثلاجة بطة ملتحية تعض يد رجل غريب وهذا ليس ما كان يفكر فيه كوليردج.
إنّ ما يجعل تلك الأسطر أصعب بمرتين في التذكر. طلبت من فور أن يوضح لي كيفية حفظه واحداً تلو الآخر، أقرأ له سطراً فينسج صورة له مستخدماً محيطنا كقصر ذاكرة مؤقت ويربط كل صورة بنقطة على الأرض من حولنا، مثلا عندما أرى عبارة "مسك به بيده النحيلة" فإنني أجسد تلك الحركة يمد ذراعه ممسكاً بشخص من الخيال بقبضة قوية. إذا تمكنت من تحفيز الذاكرة الحركيَّة، وهذا مهم، وأما السفينة التي ذكرها؟، قد أعلق بعض علامات الاقتباس الكبيرة حوله.
ابتعد! أترك يدي أيّها العجوز المجنون! ابتعد؟ ثم سأتخيل فجوة كافتتاح لهذه الجملة. وأما بالنسبة الى العجوز المجنون سأتخيل رجلاً ذا لحية رمادية، وربما أراه يحمل بالوناً ربما
قريباً؟.
يقول فور إنّ "تعلّم الشعر بجانب قوائم التسوق والخطب، هو أحد الاستخدامات العلميّة القليلة بالنسبة الى تقنية قصر الذاكرة" وجدت هذه التقنية من أجل فن الخطابة. استخدم سيسرو، في المقام الأول، عبارة عن بقايا من زمن كان الناس فيه يفكرون في البلاغة باستخدام هذه التقنيات.
إنّ الشعر المقفى يسهل تذكره خصوصاً أن الوزن والقافية يشكلان هيكلاً للقارئ لكي يتذكر القصيدة، أما بالنسبة الى الشعر الحر فهو بمثابة تحدٍّ عسير.
لم يكن سيسرو هو أول من وظّف هذه التقنية فقد وُجدت تقنية "قصر الذاكرة" بشكل أو بآخر منذ ما يزيد عن ألفين وخمسمئة عام. ويُروى أنَّ الشاعر سيمونديس من كيوس هو من اخترع هذه التقنية، وكانت فيما مضى أساساً رئيسياً في الأكاديميات اليونانية القديمة. وحتى ظهور الطباعة، كان يُفترض من الإنسان المطلع ان يحول عقله الى مكتبة من الأدب المحفوظ في الذاكرة.
يقول فور لم تكن الثقافات الغربيَّة وحدها التي استخدمت تقنيات الذاكرة، وتعد قصة محزنة للغاية. وأضاف قائلاً: كان الهنود الحمر الأصليون يروون ملاحمهم الثقافيَّة بربطها بمعالم الطبيعة، وعندما انتزعت الحكومة الأمريكية أراضيهم ولم يخسروا أراضيهم فقط، بل فقدوا تاريخهم أيضاً.
في الوقت الراهن، مع الانتشار الواسع لما يسميه فور التدوين الخارجي للذاكرة (العوامل الرئيسة: القلم وآلة الطباعة والويب) أصبحت تقنية تطوير الذاكرة الخارقة مقتصرة على عدد قليل من "الرياضيين العقليين". يكتب فور عن زملائه خبراء الذاكرة بشيء من التشكّك الساخر، على سبيل المثال يصف المشاركين في مسابقة الذاكرة النموذجية في كتابه بأنهم شباب وذكور بيض ومولعون بفن الخفة.
يُقدم الكتاب مرشد فور ومعلمه الروحي ( أيد- كور)، صاحب الشعر الكثيف والخبير في فن الذاكرة، بوصفه واحداً من القلائل الذين يحملون لقب "سيد الذاكرة الكبير" وهو لقب حصل عليه في سن الثالثة والعشرين بعد أن تمكن من تذكُّر 1000 رقم عشوائي في ساعة واحدة. يعترف فور مازحاً أنَّ "أيد يتفوق عليَّ في حفظ الشعر".
يُشارك السيد كوك حكمته في مكالمة جماعيَّة فيقول إنَّ "أحد الأمور التي يجب أن أبوح بها، يظل الشعر في حالة فوضى والتشوش حتى يستقر في الذاكرة بعد فترة من التأمل والراحة، وأشعر بالدهشة عندما أحاول حفظ الشعر. وهو في أواخر العشرينات من عمره حفظ كوك أجزاء كبيرة من ملحمة "الفردوس المفقود" لميلتون بمعدل 100 سطر في الساعة. وفي كتابه يصف فور عقل معلمه بأنه مدينة شاسعة من الذكريات.
سألت كوك أين وجدت مساحة ذهنية كافية لتخزين ملحمة ميلتون، فيجيب: لقد استخدمت كل ما كان متاحاً. ويضيف قائلاً: استخدمت أجزاء مختلفة من أماكن مدينة لندن لديَّ جزء في محطة سانت بانكراس، وأجزاء من مدرستي القديمة، والعديد من مناطق اكسفورد ومنازل الأصدقاء وما إلى ذلك.
كنت أنتقل من مقهى إنترنت في كينغز كروس الى منزل صغير في ويلتشير. انتشار القصيدة عبر زوايا ذهنه لدرجة جعله أحياناً ينسى جزءاً منها ببساطة لا يعرف المكان الذي وضعه فيه، ويقول كوك "لقد تطلب مني الأمر الوقت لمعرفة أين تم تخزين أجزاء القصيدة". قبل أن يغادر سألت كوك: هل شعرت بالقلق في يوم من الأيام من أن يتفوق عليك أحد تلاميذك؟ فيجيب لا. إذن ما الفائدة التي يمكن أنت تعود علينا من أسرار الذاكرة؟، هل يمكن تُحدث ثورة في التعليم؟ فيجيب فور ليس هدفي أن أحول التعليم أو شيء من هذا القبيل. كنت أتمنى لو أن أحدهم أخبرني عن هذه التقنيات في المدرسة الثانوية، حيث يُطلب منا حفظ كميات هائلة من المعلومات. إذا كانت هنالك العديد من الطرق أكثر فعالية، فلماذا لا نستخدمها؟، من المفيد تعليم الأطفال كيفية عمل ذاكرتهم، حتى لو لم يكن سبب آخر سوى جعل التعلّم أكثر متعة.
في الكتاب "السير على القمر مع انيشتاين" يلتقي فور بالمعلم ريمون ماثيوز الذي يكرّس جهده لتدريب الطلاب في مدرسته، التي تقع في حي ساوث برونكس في نيويورك، على تقنيات الذاكرة ورسم الخرائط الذهنية ويصطحب مجموعة من 12 طالباً كل عام للتنافس في بطولة الذاكرة الأمريكية.
تُعرف صفوفه باسم (العاشر الموهوب) تيمّناً بمقالة من عام 1903 التي جادلت بأن نخبة من الأمريكيين ذي أصل أفريقي يمكن أن ترفع المجتمع بأكمله من براثن الفقر. لم يفشل أي من طلابه في امتحانات الولاية، والغالبية العظمى منهم حققوا نتائج تتجاوز 90 بالمئة. وهذا فصل يمكن أن يكون كتاباً في حد ذاته.
 سألت فور عن استخدامات هذه التقنية في حياته اليومية، فيجيب أن الأماكن التي أستخدم فيها هذه التقنية للحفاظ على لياقتي هي التسوق. ويضيف فور أنّ "هذه التقنية ذات فائدة أكثر لزوجتي مني كونها طالبة في كلية الطب".
يقول فور واصفاً رجال الذاكرة، أن العديد من الأشخاص الذين يتنافسون في هذه الرياضة يعتقدون أنّها ستصبح يوماً ما حدثاً أولمبياً، وهو يختلف معهم حيال ذلك لكنه لا يستبعد ذلك. ويضيف قائلاً: يمكنني أن أتخيل أنّها قد تصبح تقنية ذات شغف لدى الناس. وهناك شيء ملفت للنظر عندما أشاهد الناس يستخدمون هذه التقنية بطريقة
مدهشة.
 لقد انقضى الآن نحو أسبوع على ورشة عمل متقدمة أقمتها، وبعد فترة قصيرة من التدريب أصبحت شخصيات القصيدة الغريبة راسخة في المنزل الذي نشأت فيه، مثلاً العين المتلألئة ببريق غريب مسندة إلى ساقين كرتونيتين، وتنسدل منها لحية رمادية طويلة التي ساعدتني على حفظ القصيدة (أنشودة البحار القديمة) وأستطيع بسهولة استحضار ما حفظته ما لا يقل عن السطرين الأولين، ومع مرور الوقت والجهد، وأنا على يقين أنني أستطيع بناء قصور لاستيعاب البقية، لكني لن أفعل ذلك ببساطة.
أولاً، لديَّ محرك البحث غوغل، وثانياً، تزاحمت على عاتقي العديد من المهام التي تستلزم إنجازها. وكما أشار فور، فإن القدرة على استحضار فن التذكّر ذاته هو بمثابة تذكير بقدرة العقل على استعادة تلك المهارات من غياهب الذاكرة.