الحياة ليست نزهة في حديقة

ثقافة 2024/09/18
...

  علي العقباني

في إحدى أماسي شهر يونيو من عام 1960 وصل جثمان بوريس باسترناك إلى مقبرة إحدى القرى النائية في الريف السوفيتي «سابقاً»، وكان الكفن مفتوحاً حسب العادة الروسية، محاطاً بعدد من الأصدقاء المقربين الذين أحبوه وعدد آخر من أبناء تلك القرية من الريفيين، وهناك تمَّ دفن الجثمان تحت شجرة صنوبر عتيقة، فوق تلة، وبعد عزف المقطوعة الجنائزية لشوبان، حفروا اسم باسترناك على شاهدة القبر، إلى جانب عام مولده وعام وفاته (1890-1960) مع سطر من نهاية قصيدة كانت بعنوان «هاملت» من مجموعة أشعار «يوري زيفاكو» الملحقة بالرواية الشهيرة التي كتبها باسترناك وجاءت عليه بالعواصف والشهرة، والعبارة كانت: «الحياة ليست نزهة في الحديقة».


ينتمي الشاعر والروائي والمترجم السوفيتي الشهير بوريس باسترناك إلى ما أُصطلح على تسميته بجيل المعاناة في الأدب السوفيتي والذي سمي لاحقاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بالأدب الروسي، هذا الجيل الذي عاصر حربين عالميتين كارثيتين على بلدهم والعالم، دمرتا عشرات المدن الكبرى وقتلتا ملايين البشر، ولم يكتف الأمر بذلك بل عاصروا أيضاً حروباً أهلية وحروباً باردة، وغيرها من الصعاب المحلية الخالصة،  وتلك أحداث انعكست بشكل جلي ومباشر في أعمال هذا الجيل صوراً فاجعة للعذابات الإنسانية الفردية والمجتمعية، إلى جانب صور أخرى من قوة الإنسان واحتماله وبطولته وقدرته على معايشة الظروف الصعبة وأحياناً مواجهتها والتغلب عليها، وتلك الحالات صورها باسترناك في روايته الأشهر»الدكتور زيفاكو»، والتي أثارت حين صدروها عواصف كثيرة حول موضوعها وشخصياتها استمرت سنوات طويلة، وأثارت حينها كذلك أسئلة كثيرة حول شخصياتها وصلتها بشخصيات واقعية كان باسترناك على علاقة بها بشكل مباشر أو غير مباشر، واستمرت هذه الحملة ضد باسترناك حتى وفاته عام 1960.
 تتحدث رواية «الدكتور زيفاكو» عن فترة هامة وحساسة من التحولات الكبرى في حياة الشعب الروسي، ضمنها باسترناك مآسي الحرب الأهلية وأحلام التغيير لدى طبقة كبيرة من الناس، و تجري تلك الأحداث على خلفية أخرى هي المأساة الشخصية للشاب يوري زيفاكو، الذي يبحث عن الحب المستحيل، «وحول ذلك يكتب باسترناك على لسان بطله يوري زيفاكو في الرواية: أنا لا أحب الإنسان الكامل الذي لم يرتكب أي خطأ، لأنه من البشر الذين لم يسبق لهم أن اكتشفوا جمال الحياة»، وهو كان يشعر بالضياع بين زوجته والصبية الجميلة التي أحب «لارا» التي يصفها باسترناك نفسه بأنها «ذات عبقرية واضحة، وهي شخصية رقيقة ووسيمة جداً..» وقد أثارت تلك الشخصية تكهنات كثيرة لدى النقاد وتساؤلات حول من هي الشخصية الحقيقية التي أوحت لباسترناك بشخصية «لارا»؟، إنها أولغا بافنسنكايا التي كانت في ربيعها الثلاثين حينما التقى بها باسترناك وهو في حدود الستين من عمره، كانت شقراء ذات جاذبية خاصة، وهي منفتحة الذهن، تعتقد أن الحياة لم تعطها حقها. انتحر زوجها الأول لأنه شعر أنها لا تحبه، أما زوجها الثاني فقد توفي بين ذراعيها... تقول «أولغا» عنهما: كان ثمة الكثير من المسرات والأحزان، لكن باسترناك اكتشف روحها دون أن يتخذ منها موقفاً.
في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين وتحديداً في عام 1957 صدرت عن دار النشر الإيطالية الشهيرة أنذاك «فيلترنيلي»  ترجمة لرواية «الدكتور زيفاكو» لباسترناك، ثم ترجمت ونُشرت في أكثر اللغات الحية في العالم بعد ذلك، وفي عام 1958 حصل باسترناك على جائزة نوبل للآداب عن هذه الرواية، التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1966، لعب فيه دور البطولة عمر الشريف في دور «زيفاكو» وجولي كريستي في دور «لارا»، وكان من إخراج ديفيد لين.
لم يمر حصول باسترناك على جاىزة نوبل للآداب عابراً واحتفالياً في بلاده بل أثار حصول باسترناك على الجائزة عاصفة سياسية وصحفية واسعة، كان من نتائجها فصل باسترناك من اتحاد الكتاب السوفيات، وربما أُجبر على اعتذاره عن قبول الجائزة، وعلقت وقتها إذاعة موسكو على حصوله على الجائزة، بانه «إجراء سياسي موجه ضد الاتحاد السوفياتي»، فقد رأت الأوساط الرسمية في تلك البلاد حينها أن هذه الرواية تؤكد أنه ما من ثورة يمكن أن يبررها التاريخ، وأن ثورة أكتوبر عمل غير مشروع، وانها يمكن أن تودي بروسيا إلى كارثة تقضي على المثقفين النابهين فيها، ورداً على إشاعة هروبه إلى الغرب أو نيته فعل ذلك وجه باسترناك رسالة إلى خروتشوف ينفي فيها ما قيل بأنه ينوي الهجرة إلى الغرب، ويؤكد أن الرحيل إلى خارج وطنه يعادل الموت بالنسبة إليه..فقد كان باسترناك معجباً بشخصية ماياكوفسكي، وتحدث في مذكراته كثيراً عن لقاءاتهما المشتركة، وعن جماعة الروس المستقبليين وشعراء تلك الفترة، وعن آنا اخماتوفا التي فصلت من اتحاد الكتاب بعد أن هاجمها «جدانوف» عام 1946 واختارت المنفى.
 باسترناك الذي ذاع صيته في أصقاع الأرض كاتباً، كان قد اختار لنفسه أو أحب ورغب في البداية أن يكون موسيقياً، وذلك تحت تأثير الموسيقي الروسي الكبير «سيكريابن»، وكان قد تلقى في طفولته تربية فنية متقدمة، على يد والده الرسام ليونيد باسترناك وأمه الموسيقية روز كوفمان. وقرأ الأدب العالمي، ومن ثم أعد نفسه لدراسة الفلسفة في موسكو وماربورغ، في ألمانيا، ولكنه ترك الجامعة ليتفرغ للكتابة، فأنجز أعمالاً شعرية وروائية هامة منها: فوق الحواجز، أختي الحياة، القطارات المبكرة، رسائل من تولا، الدكتور زيفاكو، إلى جانب الترجمات المختارة من الأدب العالمي التي نقلها إلى الروسية. الذي ترجم منه فيما بعد، أعمالاً هامة لغوته وشيللي وفيرلين وكلايست وشيكسبير.
فخلال فترة الحرب العالمية الثانية وما قبلها، أنجز باسترناك ترجمات هامة من الأدب العالمي مسرحاً ورواية وشعراً، ومن أهمها: مختارات من أعمال شكسبير: هاملت، روميو وجولييت، انطونيو وكليوباترا، عطيل، هنري الرابع، الملك لير، ماكبث، وعن تلك الترجمات كتب باسترناك ملاحظات هامة حولها قال فيها: «كما هو الحال عند الكاتب، يجب على المترجم أن يكيف نفسه مع المفردات الطبيعية، ويتجنب التورط بالحرفية المزيفة في الأسلوب، فالترجمة الجيدة هي التي تخلق إحساساً بالحياة، وليست هي الحشو اللغوي المقابل للنص الأصلي..».
عانى باسترناك خلال حياته العامة والأدبية من عدم قدرته على التواصل مع الحياة والناس من حوله، وقد كتب حول ذلك عن نفسه وطريقة حياته ومعاناته وأفكاره يقول:
«إننا لا نستطيع أن نتطور دون المعاناة، ولا تتلاحق بيننا الأجيال، كل جيل يتطور عن سابقه دون أن يكون صورة منه، كما تريد لنا الغرائز.. وكما تفعل هذه الغرائز، بضحاياها من الطيور والحيوانات والنباتات. لولا الحب والفن لوقع الإنسان تحت رحمة الغريزة، غير أنه يتصدى لها بالحب والفن وينتصر».