أ.د عامر حسن فياض
الديمقراطية بالتجربة عبر سني عمرها، قد تتغول لتصبح حكم الغوغاء الشعبوي والفوضى الشرسة أو قد تتقزم الديمقراطية، لتصبح حكم السلطة المتسلطة على مجتمع يراد له أن يكون مجتمع تفاهة. والحقيقة كل الحقيقة أن الديمقراطية لا تنجح دون مجتمع ديمقراطي ونتلمس هذه الحقيقة عندما نقرأ بيقظة نتاجات الأب الروحي للبراجماتية المفكر الأمريكي (وليم جيمس 1842-1900م) والمفكر الامريكي (جون ديوي 1859-1952م) اللذين أكدا التعددية وأفكارا تنحصر قيمتها في قدرتها على اقتيادنا نحو وقائع وخبرات ونتائج مستقبلية أو بالأحرى مخرجات مثمرة في المستقبل. لقد أوضح المفكر الفرنسي (اميل برهييه 1876-1952م) أن النظرية الحقة من وجهة نظر البرجماتية هي التي تقودنا إلى توقع النتائج التي نلاحظ حدوثها فعليا، وهو ما يصدق، بوجه خاص، بالنسبة للفلسفات التي يقبلها الناس أو يرفضونها تبعا لحاجاتهم وطباعهم، وليس تبعا لحقيقتها الموضوعية لأنهم لا يتساءلون هل هذه الفلسفة معقولة أم غير معقولة؟ بل يتساءلون هل تتناسب مع حياتهم أو مصالحهم، وما هو نفعها لهم. لنعدْ الآن إلى وليم جيمس الذي انطلق في فكره السياسي من الاعتقاد بان الحقيقة ليست صفة ساكنة في أفكار ثابتة، بل إن الأفكار تصير حقيقة نتيجة للأحداث وبتأثيرها وأن التغير الدائم في الأحداث يجعل الحقيقة دائمة التغيير، بحيث إن ما يعطي نتائج عملية في مرحلة ما قد لا تكون له قيمة قط في مرحلة أخرى لذلك يجب أن تكون على استعداد لأن نعيش يومنا بما نستطيع أن نحصل عليه في ذلك اليوم من الحقائق، مثلما نكون على استعداد لأن نعدّ حقائق اليوم اكاذيب الغد، وان ذلك ضروري في السياسة، كما في أي فرع آخر من فروع الفلسفة. ويترتب على قول وليم جيمس هذا أن أيةَ صورة من صور الحكم لا يمكن أن تكون مثالية بالنسبة لجميع الناس في جميع الظروف، وأن أية قضية سياسية، لا يمكن أن تجد مرة واحدة حلها الوحيد النهائي. ولم يُبد جيمس اهتماما فلسفيا كبيرا بالقضايا والنزعات السياسية ذات الطابع الواسع، باستثناء قضية العمل ضد الاستعمار وفي إطار هذا الاهتمام الفلسفي الضعيف، فقد رفض فكرة المطلق ورفض أن يرى في الدولة تفتحا للروح الإلهية في التاريخ أو تجسيدا للحق أو مصدرا له كما قال هيغل من قبل.
وترتب على هذا رفض وليم جيمس الإقرار للدولة بالسلطة المطلقة غير المحددة، لأن ما كان يؤمن به هو:
- التعددية التي سيطرت على مجمل فلسفته السياسية.
- التسامح مع الاختلافات بل وتشجيعها لدعم تقدم الامة.
- الفردية التي اقترنت لديه بالتعددية لأن المجتمع في رأيه يكون سليما بقدر ما يعتمد على الفرد كأساس لوجوده ومن ثم فلا قيمة لشيء بقدر قيمة رفاهية الافراد. إن التمسك الذي ابداه وليم جيمس بالتعددية والفردية قاده إلى مساندة الحرية ليس فقط بالنسبة للأفراد، بل وايضا للأمم الصغيرة، التي أبدى عطفه على صراعها للحفاظ على استقلالها، معربا عن تقديره لانتصار البوير (المستعمرين البيض) على البريطانيين في جنوب افريقيا، بينما لانجده يبدي اي عطف على الاستعمار بما في ذلك الاستعمار الامريكي في الفلبين. وحاول في مقالته (البديل الاخلاقي للحرب)، تأسيس نزعة السلام على اساس سيكولوجي سليم حيث عدّ الحرب تساميا نفسيا لغرائز العدوان وحب المجد والإثارة، لأن الانسان يخفي وراء واجهة الطبيعة البشرية المتحضرة وحشا بدائيا مستعدا لأن يمارس عدوانيته عند أول فرصة، لقد زرع أسلافنا النزعة العدوانية في عظامنا نفسها حتى أن مئة جيل من السلام لا تكفي للتخلص منها، فالناس تريد الحرب وتسأم من جمود السلام الدائم ورقابته. لذلك فإذا لم يوجد بديل يوفر للناس الاثارة ونداءات البطولة والتضحية بالنفس التي يولدها الصراع الحربي، فسيظل السلام قائما على دعائم واهية، ولن يسقط فحسب بل ويستحق ان يسقط ايضا، لان من الواجب المحافظة على محاسن النزعة الحربية حتى لا تتحول الامة إلى مخلوقات واهية. وتأسس موقف جيمس هذا على إيمانه أيضا بفضائل البطولة والحياة الشجاعة ودعوته إلى ممارستها، ولكن بشكل فردي وشخصي أولا واساسا، وكان هذا منطلق دعوته إلى تطبيق (البديل الاخلاقي)، الذي اتخذ لديه صورة تجنيد إلزامي شامل لكل الشباب من السكان، لتتجه مجموعة منهم للعمل في المناجم واخرى لبناء الطرق أو الانفاق واخرى للعمل في حر المسابك والافران أو في اساطيل صيد السمك في برد الشتاء، ليتخلص هؤلاء الشباب من طفولتهم ويعودون إلى المجتمع بمشاعر افضل وأفكار انضج. واعتقد جيمس ان هذا الاسلوب يمكن ان يحفظ للامة مزايا الحرب والحياة العسكرية، من دون إراقة دماء، وبذلك فإنه وعلى الرغم من عدم تعاطفه مع الحرب فقد نظر إلى حروب الماضي بشيء من الرومانسية بوصفها ضرورة لازمة لتماسك الامم وانتصار الافكار النبيلة. وصاغ جون ديوي معتقداته الاخلاقية بدلالة المسائل السياسية والاقتصادية الكبرى التي عرفها زمانه، مبديا اهتماما كبيرا بالحياة العامة وقضاياها، حتى اعتقد الكثيرون أن ديوي وخلافا لسابقه وليم جيمس لا يهتم بالوجود الفردي والخاص. ولكن هذا الطابع الاجتماعي الذي ميز فلسفة ديوي، استند إلى معتقداته الأخلاقية الخاصة بتحقيق الذات واعتقاده أن (الفردية الجديدة) هي النشاط الجماعي والتجربة العامة الضروريان لتزويد الفرد بــــ (الحرية الفعالة) والفهم العملي لاحتياجاته ومصالحه، وربما كانت آراؤه هذه سبب وصفه الداعية الاول للاشتراكية الديمقراطية في امريكا. وفي ضوء ذلك صاغ ديوي وأتباعه نظرية للديمقراطية، ليس بوصفها شكلا من اشكال الحكومات فحسب، بل وبوصفها ايضا نظاما للحياة المترابطة القائمة على انتاج المجتمع للحرية، فالمجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يوجه منظماته نحو هدف جذري موحد يتيح لأعضائه فرصة النشوء عقليا وعاطفيا، وهم يمتلكون اهتمامات مشتركة وشعورا بالمسؤولية المشتركة عن عمليات الضبط الاجتماعي والمادي، ليكون بلوغ هذه النتائج هو المحصلة النهائية للديمقراطية نفسها.