إلياس خوري.. مملكة الفقراء

ثقافة 2024/09/19
...

  يقظان التقي 

رحل قبل أيام الروائي اللبناني إلياس خوري بعد صراع مرير مع الألم عن عمر ناهز 78 عاماً، شخصيّة مميّزة في الكتابة الأدبيّة، وفي إطار حراك المجتمع المدني المفتوح في كتلة حضور حيَّة، مرئيَّة في أوساط المثقفين والأدباء العرب، وبأسلوبه الخاص في كتابة الحكاية الفلسطينية، وإصغائه إلى حكايا الناس المنسيين وكتابة سيرهم وقصاصات عيشهم وآلامهم وهم المهمشون في ضواحي المدن والأزقة الضيقة ومخيمات اللجوء.

حضوره كان يتضمن قيمة مضافة، صورة عن انخراط المثقف في الوظيفيّة التغييريّة والجماليّة وفي الوظيفة التاريخيّة من خلال علاقته بالثورة الفلسطينيّة "فتح"، وبالحركة الوطنيّة المؤيدة للثورة الفلسطينيّة، وما يتخطى ذلك إلى أشكال التعبير المتفجرة في استعادة انتاجاته الأدبيّة التي لا تحصى، وترجم بعضها الى لغات عديدة، وأبرزها شهرة روايته "باب الشمس" وفيها الحضور والرؤية والأحلام والواقعي والمتخيل بين ماضي وحاضر القضية الفلسطينية، إلى رواية "رائحة الصابون"، التي تعكس لغته وتراثه المعرفي وتواصليته الاجتماعية العميقة مع آلام الموجوعين. 

إلياس خوري كان يدلف إلى المدينة من كل صوب: الصوت واللغة، والنظارة المرتخية، والحقيبة الجلدية، والجسد الدرويشي، رافق حيوات المدينة ببيروت بذائقة أدبيّة ناقدة ومتمرّدة وبروح بالغة الإحساس، شغوفاً بالتعبير عن كل ما يتصل ويتشارك مع فلسطين، والمسألة تتعلق بذاكرة أعطاها القصص الرائعة، ولم ينفصل عنها. وهكذا تحوّلت عنده الى نصوص وأبحاث وكتابات ومسرح وشعر ومعرض وأغنية وموسيقى وندوات ومؤتمرات، وتحولت عالمه المتدفق برسائل مختلفة وكعناصر تاريخيّة وواقعيّة. 

أنهكه الألم في السنة الأخيرة وأقعده متهالكاً على سرير المشفى، ضوء خفيف على وجهه، يعيش كل يوم يجري في غزّة، ولم ينقطع عن الكتابة يقاوم حالة الجمود والقلق، ويستخدم الكتابة أداة حياة كجزءٍ من شخصيته ونصّه كحركة حيَّة، فحلَّ جسد اللغة، مكان لغة الجسد في لحظة عبور الألم. 

وُلد الكاتب والمثقف والصحافي اللبناني إلياس خوري في بيروت في 12 يوليو/ تموز 1948، وهو عام نكبة فلسطين التي طبعت شخصيته وثقافته في مسيرته، وبقيَ يُلاحقهُ طيفُها حتى لحظة وفاته، بعد معاناةٍ مع المرض، يوم الأحد 15 سبتمبر/ أيلول 2024. ثمّ الحرب اللبنانيَّة في مساراتها المشوّشة بين الناس والتيارات والطوائف، وعززت مفهوم النضال المسلح، الذي كان شكّل مادة أساسية للعمل السياسي في حركة فتح. انتمى خوري إلى جيل عاش مختبر الأفكار والتجارب والإيديولوجيات وساحة الصراع بين الروايات، وكذلك الأنظمة والطوائف والمذاهب والمناطق، إلى الصراع الطبقي وهو من أسرة متوسطة في الأشرفيَّة. فوجد نفسه في فضاء أوسع منتجاً لمسارات القول والتفكير ويعد صاحب أسلوب خاص في الكتابة الروائيَّة. هو أحد الروائيين القلائل الذين عايشوا الوقائع في الجليل والمخيمات والتراث الشفهي وما يتناقله الناس ويتداولونه، وفي سياق عمله الروائي بصيغة التوثيق لليوميات المعاصرة. بصيغة الحكايات وتدفقها في رواياته الـ 12، المشبّعة بالرموز والمعاني السياسيّة، منذ روايته الأولى "عن علاقات الدائرة" الصادرة عام 1975 وصولاً إلى الأخيرة "أولاد الغيتو 2: نجمة البحر" الصادرة عام 2019، مستنداً إلى الشكل الكتابي والنص المفتوح على الشعر والأدب والموسيقى والمسرح والصورة السينمائيّة في طريقة السرد منتقلاً من زمن إلى زمن، من حالٍ إلى حال حاملاً للانفعالات، وهو من الكتاب الأحرار والمفكرين والمثقفين والشعراء والفنانين والايديولوجيين على مستوى ظاهرة الالتزام، لكن ليس كمجرد كتل مدنيّة مغلقة، وشكلوا فضاءً يصيب في مجرى الحرية والديمقراطية والتعددية والحداثة الأدبية. 

عمل على مدى أربعين عاماً في الكتابة والصحافة والتوثيق، قريباً من الأفكار اليساريّة والثوريّة المجتمعيّة والسياسيّة مشتغلاً على خطين، طريقة السرد، والعلاقة بالمضمون والمعنى - والعلاقة بالمدينة والآخر بالحياة اليوميّة.

يعدُّ خوري واحداً من الروائيين العرب القلائل الذين أبقوا على غموض ما في شخصيتهم، وفي جبلة من العلاقات التي لها علاقة بأنظمة الفكر التغييريّة حين تتوجه للآخر، وحين تكون سيرته في نص حكايات الآخرين، أو أن تُكتب من خلالهم.

كان قادراً على ايصال ما يريده بسهولة على طريقة طرق التعبير الطليعيّة التي تقول الأفكار الجديدة بلغة فنية وشعرية وروائية وأحيانا مسرحية وسينمائية ملاحقاً حكاياتها وصورها وتمثيلها في النص الروائي بصيغ إشكاليّة وتأويليّة لصنع واقع تاريخي جديد. وكان أنموذجاً في التمرّد والخروج للمثقفين والنخب في التجاوز والتخطي وكسر السائد في البنى الفكرية والثقافية القائمة في محاباة السلطة الرسمية ومعاداتها كل "تجريبية" من نوع تلك التي تخسر الأرض وتربح الحكم، وتقتل الأوطان لتحمي نفسها وتحويل مجتمعاتها مغلقة أو منكوبة مرتبطة بصراعات الخارج. ناضل ورفاقه محمود درويش وادوارد سعيد وسمير قصير بهوامش متفائلة، وتحرك في الحرب وسط الخطر ليحافظ على ذاكرة الأمكنة، والى حيث يجب أن تعود فلسطين إلى أهلها وتعدديتها وتنوعها، وهي تقاوم أسطورة الاحتلال الإسرائيلي الخرافية والعنصرية.    

لكن التاريخ الفعلي يجري في مكان آخر، عن الحقائق والخيالات والأحلام ومواقعها. لم يفقد خوري الآمال المفتوحة والجارحة ما كان يُعتقد أن "الجيل الجديد" لم يستُنفد في التقاط شخصياته وأفكاره اللحظة التي بدأت في "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

هذه المسألة رافقت مقالاته أسبوعين قبل وفاته يكتب على سريره كمن حلمه الدائم هو الوصول إلى نص يشبه فلسطين بلغة وحب وألم.

إلياس خوري كان مؤسساً ليس فقط لأسلوبيّة سرديّة روائيّة تهتم بتدوين حكاياتها الممتعة على لسان أبطالها وضحاياها المختلقين والفعليين، من دون حوارات حول الأدوار والمواقع والصفات والمصائر بشكل مستمر، بل كان مؤسساً لفضاء مديني على مسرح بيروت احتضن الأفكار والتجارب الفنيّة والحياة والفنون. والحرية والسخط والغضب. 

 تبقى روايته "باب الشمس"، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1998 والتي حوّلها المخرج يسري نصر الله إلى فيلم عام 2004، وهي مثل رواية "رجالات الشمس" لغسان كنفاني تجسد سرديّة الأنثروبولوجيا الفلسطينية، يستعرض فيها نكبة عام 1948 بمجاميع من الحكايات ومتن للسرد. ويعيد تأليف الحكايات ليس في واقعها الحي، لكن في تمثلاتها المتخيلة فيصنع واقعا آخر لقضية فلسطيني بعد أن يستردها ويرمّمها على لسان عشرات النساء والرجال في مخيمات برج البراجنة وشاتيلا ومار إلياس وعين الحلوة، الذين فتحوا له أبواب حكاياتهم كتاريخ شفوي حساس في ذاكرتهم وأحلامهم ،"انطلاقاً من خصوصياتهم المعاد تشكيلها بطريقة ما بعد حداثية، ما يسمح بتلقي العالم لفوارقها ومن خلال اجتماع مكوناتها المتناقضة والمتشظية.

له روايات عدة، منها رواية "سينالكول"، التي صدرت عام 2012، رواية "يالو" عام 2002. وصدر للراحل 13 رواية بين عامي 1975 و2016: "الوجوه البيضاء، رحلة غاندي، مملكة الفقراء، كأنها نائمة، والجبل الصغير". مع تفاوت الايقاعات والمستويات، وإلى جانب الإنتاج الروائي، أصدر خوري مؤلفات كثيرة مثل المجموعة القصصية كـ "المبتدأ والخبر"، والمقالات مثل "زمن الاحتلال"، والدراسات النقديَّة من قبيل "الذاكرة المفقودة"، كما كتب 3 مسرحيات.  قد يقول البعض إنّ إسقاط قضية فلسطين في الرواية والشعر هو قتل لها. لكن الكاتب عرف كيف ينصف قضيته وأدبه ونصوصه بتأملاته المضيئة ونضالاته وبأسلوبه الطالع من رفقة ولغة وحب، يؤكد على اسمه كاتبا كبيرا، يتفاعل بقوة مع قضايا السياسة والمقاومة والدفاع عن قضايا الحرية، يقاتل بكلماته عالماً بلا قلب حين يقتل المدنيين الفلسطينيين، ولا يهتم بأنفاس المقموعين والذين يعيشون في أوضاع اجتماعية صعبة، حيث اقتلعت روح الأرض منهم، فحاول الكاتب رسمها من تحويل السياسة وتلك القضايا رافعة لكتاباته وأسلوبه وهو المبدع، الذي يبلّل أصابعه وحواسه وأعصابه، وبأي ابداع، كرسالة مشعة، وبأسلوب الموهوب في الكتابة الرصينة وفي البحث عن الحقيقة والبرهان. وهو ناضل كل حياته من أجل شخوص رواياته ليصبحوا أقوى عبر العالم، وفي مستوى الأسطورة الخرافية والعنصرية التي سلبتهم أرضهم، وبأشكال من العنف وكسرها ومعها موتى الروح الإنسانية العالمية المغلقة على نفسها. 

إلياس خوري، النص.. الشخص.. الحياة.. الموقف المفتوح.. التمرد.. السخرية، كان جزءاً من تحولات المدينة السياسية والاجتماعية والثقافية العربية، والتجريب الإبداعي في تحولاته ومتغيراته، صارما ودقيقا. المدني الشامل في نصوصه وكتاباته وأعماله وعشرته وصداقاته، أضاف إلى المدينة بيروت المتعة والإبداع والموقف والصمود، حيث يبقى الكتاب هو الملجأ الوحيد للنفاذ إلى باب الشمس والحرية.