استعادة الجسد من الهامش

ثقافة 2024/09/19
...

  عادل الصويري

تجاوزت الأنوثة المكتوبة، مراحل كثيرة من الوظيفة الشهرزادية الثانوية، حتى إن مثلت هذه الوظيفة نوعاً من الاختلاف "الرمزي" لفكرة الأنثى التي تتمثل الجسد في سردياتها. الأنوثة اليوم تستعيد الجسد من هامشيته الحسية الغريزية، منطلقة به إلى رحاب الحضور المسور بفلسفة الخصب، التي تؤدي إلى صناعة وعي مغاير يواجه مركزية السلطة الذكورية، ونسق الحكايات التي يمنحها الرجل من بركاته، وخلخلة أنساقها الجنسيَّة،

عبر كتابة تمارس فعل التثوير، وتنشد التحرر من التاريخ القامع للجسد فحولياً؛ لصنع حاضره المغيّب في المُهمل. الحاضر الذي يكشفه الجسد متناً لا هامشاً؛ ليقولَ إنّه من عناصر القداسة والتطهّر من آثام المركزيات السابقة؛ ليُعلنَ حُلولَهُ المدهش في اللغة والغموض الآسر، والمغري بالتتبعِ والكشف.

وثورة الأنوثة المكتوبة؛ لا تعني اقتراح نماذج جديدة للكتابة المعنية بالجسد وتمثلاته، ولا تسعى إلى تقنين فني للهوس بالجنس، وإشباع نهمه باللغة والتشفير؛ بل تسعى إلى أن يأخذ الجسد حصّته الكاملة من الأنسنة، من خلال الـ (أنا) المتجاوزة والمُحلِّقة؛ ليصنع هويته ومصيره، بعيداً عن رهاب ورماد الأقنعة التي لم تعد تشكل شيئاً ذا قيمة في الكتابة الحديثة والحياة المعاصرة.

الجسد في الكتابة الأنثوية اليوم؛ يمثل وعياً متقدماً وجديداً، في التعامل مع أهم مشكلات الأنثى، ممثلةً بـ (تابو) الكلام عن المسكوت عنه، والدخول فيه؛ لمعرفة أسراره، وبما يضمن للجسد أن يكون في منأى عن أي شرح أو تبرير لفعل المجاوزة الذي تمارسه الكتابة. فهو ثيمةٌ أساسية لطرح التساؤلات وفق ثنائيات مثل المقدس/ المدنس، والحرية/ الخطيئة، بعيداً عن تعقيدات التاريخ والماضوية، ورهاب التسلط الاجتماعي المهيمن بوهمٍ شبه كُلّي وميثيولوجي على الذاكرة والحاضر قامعاً لكل محاولات التنفس الهامشيَّة. وفي الوقت نفسه تنفلت الأنثى من الشهويَّة الغريزيَّة، وتنطلق إلى آفاق الغموض المُنتج، والترميز الجمالي، بشكل يجبر التلقي على الإنصات الناضج، رغم صعوبة المهمة بما يتعلق بالتلقي الذكوري الذي تعود على الإصغاء للجسد الأنثوي المكتوب، بما ينسجم مع ذائقته الجنسية الشهوية، بينما تعبر الأنثى بجسدها المكتوب باتجاه الحقيقة التي ترسخها بوصفها الأصل، وبوصف جسدها رمزاً للمرتقيات العالية، والتي قد تقترب من المستحيل.

وقد حضرت الاشتغالات على الجسد الرمزي والغامض، بحيث تحول إلى لحظات ذهنيَّة، مع منح الجسد حرية الرقص على الكلمات المنفلتة، في تجارب نسوية استعادت الجسد من هامشه بعد تجارب الحياة الشخصية المريرة، فكان التوهج نتاجاً لعملية الاشتباك بين الذاتي والعام، والجسد المكتوب جسرَ عبور باتجاه مراثيه أو الاحتفال بقيمته ورمزيته، وفضاءاته التعبيرية الإنسانية، وحضوره الحيوي المتمرّد على هويته الحسيّة، وعلى حضوره النصّي تمثيلاً لسيمياء لذة الآخر. هذا التمرّد يمكن له التعاطي مع اللذة في حال صارت الأنثى شهريارَ ذاتِها، فضلاً عن انسجامها المؤكد مع فكرة أن يكون جسدها معادلاً وجوديّاً لحضورها في اللغة والانفلات، بما يحقق صدمة تفتح شهية الاستفهامات المُنتجة، بعد صعقها بطاقة تعبيرية عالية، وبما يحقق علاقة عاطفية بين الأنثى وجسدها وكلٌّ "يُعطي الآخر من حياته، يعطيه من ذلك الشيء الحي فيه" كما يُعبر (إريك فروم) 

الشاعرة الإيرانية الراحلة فروغ فرخزاد، تعدُّ من أهم الشاعرات اللواتي اقتحمن الرمزي والغامض من الجسد، واحتفلت به عبر اللغة والنصوص العالية المتوهّجة، والتي بشَّرت بحداثة استثنائية في الشعر النسوي، والفارسي منه خصوصاً. فهي تخلق عدة أصوات داخل النص، وكل صوت يخلخل الأحاسيس، ويسيطر على جموحها بالانفلات، وإرباك المعجم بجريان الكلام عن المسكوت عنه، وخيال خصب يقترح سياقات تنفذ إلى أعماق الأنثى، وتتقصى ذاتها المتشظية، عسى يمكنها من الإمساك بأمان مفقود، والحصول – ولو عبر النص – على لحظات ترميم نفسي بمفردات تنتمي للشهوة العارمة تارةً، ولمفاهيم العزلة والاكتئاب تارةً أخرى محققةً الجسد الغامض والجسد الرمزي، وكأنَّ حياتها توازي نصوصها، ونصوصُها توازي حياتها التي ظلت تبحث فيها عن قلب يحتويها بعد عطشٍ لاهب لجسدِ صاحبه، حتى حولت خيباتها وانكساراتها إلى بلدان للهروب إلى العالم الحِسّيِّ المتوتر والمختلف.

وعلى نحو مغاير، ثمة نساء استعدنَ الجسدَ من هامشيته "الكلاسيكية" التقليدية عبر التمرد عليه، أو إعادة اكتشافه بعد فترات من إنكاره، وعدم الشعور به.

الشاعرة والكاتبة المصرية آلاء حسانين تعبر بوضوح عن هذا المعنى، إذ قالت في إحدى نُصوصها: "جسدي يصيرُ تابوتاً، وأنا طفل صغير يشعر بالوحدة في الداخل"، وتبرر هذه الحالة من الاغتراب عن الجسد بأنها كانت منشغلة باكتشاف العوالم الخارجية والداخلية، ولم تلتفت إلى جسدها الذي اعتبرته مجرد مركبة تنقلها من بين العوالم. إن كل مشكلتها مع جسدها كانت بسبب أنساق امتلاكه، وليست في أنوثته مطلقاً، حتى جاءت اللحظة التي أدركت فيها ضرورة الانتباه إلى جسدها، وضرورة الموازنة في العيش بين العقل والجسد، بعد أن أمضت فترات طويلة في العيش داخل عقلها فتقول: "عملت على الانتماء إلى الجسد الملموس، وأوّل ما فعلت كان النظر إليه، والتأمّل فيه والتعرّف عليه. أدركتُ أنّي لم أكن أنظر إلى جسدي أو ألمسه. بدأت أحادثه وكأنّه آخر، أستمع إليه وأفهمه. عرفتُ أنَّ للجسد ذاكرةً أخرى وأنّه يحتفظ بكل ما حدث. لا أظن أنّي قطعت شوطاً طويلاً في رحلتي تلك، غير أنّي على الأقل، بدأت باكتشاف هذا الجسد خارج القصيدة".