رعد أطياف
في الأحداث الهمجية الأخيرة على غزة، وما رافقها من عدوان وحشي لم يسبق له مثيل في منطقتنا، بل لم تتجرأ أعتى الدكتاتوريات للإقدام على هذا القتل الجماعي، طرح عليّ صديق قديم سؤاله المعهود والمعتاد والموسمي: لماذا تدين الغرب، وتنخرط في الخطابات الشعبوية المغرمة بنظرية المؤامرة، وأنت تعلم جيداً أهمية الحضارة الحديثة التي أبدعها الغرب، إذ لولاها لظلت البشرية في ظلام دامس؟ كان جوابي كالتالي: مفهوم «الغرب» عمومي للغاية لا ينطوي على دلالة حاصرة؛ فالغرب يعني الاستعمار واللصوصية، مثله مثل أي امبراطورية مهيمنة على مر التاريخ.
وكذلك يعني الغرب، التقدم التقني، والفلسفي، والفني، ويعني القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والثقافية، هذه القوى التي وصلت إلى مراحل غير مسبوقة في التاريخ البشري. وهذا التراكم يمثل النتاج الهائل المتمثل بالحراك الحضاري الذي تراكم عبر آلاف السنين، ذلك أن الحضارات لا تموت بل تنتقل مكانياً، وقد كانت الحضارة الغربية من أبرز المساهمين في هذا السير الحثيث والمضني، حيث شكّل علامة فارقة في لحظتنا المعاصرة. إذن الغرب لصوصٌ، وأوغاد، ومستعمرون، وعلماء، وفلاسفة، وفنانون، ومؤسسات، وبنى تحتية، وتقدم مهول.. إلخ، وعموم الشعوب القاطنة في أقصى الهامش يداعب أفرادها على الدوام حلم الوصول إلى أحد البلدان الغربية للعيش بسلام وكرامة، نظراً للقوانين المدنية المتقدمة في هذه البلدان. وما زالت جيوش المهاجرين تسعى لترجمة هذا الحلم على أرض الواقع والوصول إلى ضفة الشاطئ الغربي الآمنة والرغيدة. لا يوجد مجنون على وجه الأرض يتنكّر لدور الحضارة الغربية الحديثة، اللهم إلا متعصّب مريض تفترسه أوهام المعتقدات المزيفة. مشكلتنا ليست بيع النفط واستيراد السلع والخدمات والتكنولوجيا اللازمة، ولا تكمن في عدم اعترافنا بهيمنة وتفوق دول المركز، فهو تحصيل حاصل على أي حال، ولا بالمصالح الحيوية لقوى المركز، المشكلة هنا وبالذات: السياسات الخارجية غير العادلة لهذه الدول ونظرتها غير المكترثة للمشرق العربي، والتي لا تضع في حساباتها الجيوستراتيجية المصالح الحيوية للوجود العربي. إن الأنظمة السياسية الغربية تنظر لقضايانا بلا أبالية مطلقة، عبر استزراع تلك الغدة السرطانية المؤلمة «إسرائيل»، والتي ندفع ثمنها باهظاً دون أي مسوغ منطقي من جهتنا (أما من جهة دول المركز، فالمسوغ أكثر من منطقي).
أما الديمقراطية في منطقتنا تشبه عبارة «هنرميهم في البحر ياريس» التي أطلقها يوم ذاك المشير عبد الحكيم عامر! ثم استفقنا على وقع الهزيمة والانكسار المدويين. الديمقراطية حلم يداعب شعوبنا التواقة إلى الحرية، بيد أن دول المركز والأنظمة العربية المتهالكة لها رأي آخر تماماً.
إن الديمقراطية بالنسبة للقوى المهيمنة، تعني حق الشعوب في تقرير مصائرها السياسية، وتعني التبادل السلمي للسلطة، وتعني الفصل بين السلطات، وتعني رئيس سلطة تنفيذية يختاره الشعب. تلك الخطوات لا تفقد مبرراتها المنطقية في ذهنية هذه القوى فحسب، بل ينبغي تشتيتها بأي طريقة ممكنة؛ مثلاً إذا طالب الشعب السوري بالحرية لا بد أن تتحول تلك «الحرية» إلى جحيم أسود، ويكون الثمن هو دمار البلاد وتقسيمها.
على الديمقراطية في منطقتنا أن تتحول إلى وسيلة ابتزاز للضغط على الشعوب.
إن الذهن البشري يخشى المجهول، والاستبداد معلوم وواضح النتائج لدول المركز والكيان الصهيوني، أنه الصورة المثالية التي أدمنها الغرب وهو يحلل الثقافة «الشرقية». بعبارة أخرى: لا يريد الغرب أن يرانا بصورة تغاير نظرته الاستشراقية القديمة: «استبداد ذكوري»، و»شبق نسائي».
المهم في الأمر، وينبغي كذلك ضمان التفوق «الديمقراطي الإسرائيلي». حتى لو كانت إسرائيل إرهابية وتتعامل مع الشعب الفلسطيني بوحشية غير مسبوقة، وأن يصل عدد ضحايا إرهابها الوحشي أكثر من أربعين ألفاً ثلثهم من النساء والأطفال والشيوخ. فالإرهاب هنا لا يسقط المنطق الديمقراطي، ذلك أن السياسات الديمقراطية داخلية، والإرهاب والإذلال المتعمد لشعوب المنطقة، ومنها على وجه الخصوص الشعب الفلسطيني، سياسة خارجية، فلا ربط بين الاثنين! (وهذا المقارنة ترضي الطابور الخامس على ما أظن). هكذا إذن: سياسات داخلية مثالية، وسياسات خارجية، تجاه المشرق العربي بالتحديد، قائمة على الإكراه، والضغط، والنفاق السياسي، والنظرة الرخيصة والدونية تجاه شعوب المنطقة، التي لا تُقارَن بقيمة الطاقة وأمن إسرائيل.
السؤال الذي يطرحه صديقي بين الحين والآخر، ليس سؤالاً متفرداً ولا جديداً على أمثالنا المعتادين على تدوير ذات الرطانات. بمعنى، ليس هنا جوهر القضية، ولا يعتبر السؤال جوهرياً، أو مساهماً في تحريك الراكد، أو مزعزعاً لقناعة ما، وإنما عن كمية الملل والكآبة التي يشعر بها أحدنا وهو يعيد المعزوفة ذاتها لأصدقائنا، لدرجة أن معظم حواراتنا المتعلقة بهذا الشأن تبدو للحص المدرسية أقرب منها للحوارات الجادة، هل حقاً نستحق كل هذا التكرار- التعذيب ونحن نحاول تبسيط تلك الحصص المدرسية لأصدقائنا المتعلمين؟.