حازم رعد
قلت ذات مرة وعلى غرار ادغار موران أن فلسفتي ليست أكاديمية، بمعنى أنها لا تخضع لشروط المؤسسة أو السلطة، لأن معنى ذلك الخضوع أو النزول عند تلك الاشتراطات، وأن الفلسفة تكون خاضعة للاعتبارات الإيديولوجية، وعندئذٍ لا تعد فلسفة وإنما تعبير عن قوالب مغلقة تحتكر الحق وتختزل الحقيقة وتنظر للآخر بنظرة أحادية الاتجاه، فلا تراه إلا مخطئاً أبداً وعندئذ تبدأ حلقات مسلسل الاستبداد والاقصاءات، بل ولعله تصل النوبة إلى الإلغاء.
أنا ومن سواي "وهم كثيرون طبعاً" حينما نتبنى كسر حبس الأكاديميات للفلسفة، إنما نقصد بذلك فك أسرها من حبس الاشتراطات الايديولوجية ومصالح السلطة التي هي -على الغالب- لن تعبر عن مصالح المجتمع والتفكير الحر والاعتراف بالآخر واحترامه، وإنما تحاول سحب الواقع إلى جهتها ليصب في مصلحتها، وعملية السحب هذه قائمة على قراءة أن الواقع مسيطر عليه من قبل أفكار دخيلة، وكذلك لوجود انحراف فكري واضح، فتلجأ السلطة لوضع المناهج اللازمة أو السيطرة عليها وتوجيهها.. وهذه مشكلة المؤسسة العلمية العربية بعامة وليست مقتصرة على بلد معين. يقول الدكتور حسام الدين درويش، وهو أستاذ فلسفة سوري (يهيمن التوجّه المعياري في الفكر "النخبوي" العربي عمومًا، بما يفضي إلى ضعف في إنتاجه المعرفي، من دون إدراك أو إقرارٍ "واضحٍ"، غالبًا، بتلك الهيمنة وبذلك الضعف، وبالصلة الوثيقة بينهما) والمعياري هنا اشتراط ايديولوجي يتضمن القول بوجود وضع ما ينبغي للسيطرة على الوضع القائم أو توجيهه بما يناسب ايديولوجيا أو توجهات السلطة.
وليس المقصود من ذلك على الاطلاق جعل الفلسفة بمعزل عن الأدوات الأكاديمية أو ابعادها عن مناهج وطرق البحث والتفكير العلمي والنظر الموضوعي للأشياء واعتماد العلمية في تحقيق النتائج وغير ذلك مما هو معلوم في محله، غاية الأمر هو التمهيد إلى أمرين مهمين جداً هما:
١- توسعة مساحة التفكير بحرية، وذلك بالانفتاح على المجال العام، كما نحن نؤمن بهذه الفكرة وعلى المتلقي العام عموماً من خلال اثخان الواقع بالخطاب العقلاني من خلال شيئين: الأول أن ينزل الاكاديميون والنخب الثقافية وتمارس دورها في المجتمع ببث الوعي الصحيح والعقلانيّة وتمارس نشاطاً ثقافياً يسهم في صناعة الوعي.
وثاني تلك الأشياء هو محاولة اقناع السلطة بتبني الخطاب العقلاني الفلسفي والإفادة منه على مستوى الاستنارة من الأفكار الفلسفية والاستشارة في حلحلة المشكلات، وبث الوعي الذي محصلته استقرار الوضع العام، وكلا هذين الأمرين داعيان إلى فك الفلسفة من أسوارها الأكاديمية وربطها بالناس "بالمجال العام وبالمتلقي العام" ما سيسهم في بث الوعي والخطاب العقلاني والتفكير السليم، وعدم ذلك أي بقاء انزواء الاكاديمي "الفلسفي" وصعوبة اللغة الفلسفية والانطواء وسيطرة السلطة على مقررات الفلسفة في المؤسسة العلمية الرسمية معناه عدم نضج الوعي في الشارع والمجتمع واتساع مساحة العصبيات والتطرف والجهل.
٢- واستقلال القول الفلسفي عن قمع السلطة واحتكارات الايدولوجيا.. فليس خافياً على أحد أن المناهج العلمية بجملتها مسيطر عليها سلطوياً وإيديولوجيا، وهذا الثنائي هو المعني بوضع مواد المنهج الدراسي وتوجيه التدريس وتحديد نوع التفكير وما إلى ذلك مما يقود إلى ركود وجمود العقل وجعل الفلسفة أداة للاستعباد بدلاً منها أداة أو طريقة للحرية والتجرد من القبليات، وقد تنبّه الفيلسوف الفرنسي ميشال دو سارتو إلى ذلك حيث رأى أنّ "الالتزام الأكاديمي المحض ليس معرفة وإنّما سلطة" وما لم يحقق نوع من الاستقلال للقول الفلسفي داخل الأروقة العلمية فسيضل تفكيراً لا طائل منه، ولا يحقق غايات النهوض بمسؤولية المجتمع والوعي والاستنارة.
أيضا هناك مسألة مهمة مرتبطة بذلك وهي الهدف الأساسي من النزول بالفلسفة إلى الناس وهي مسالة الانفتاح على المجال العام الذي ذكرناه أعلاه، فهو يشكل حلقة الربط بين الدولة بوصفها راعياً وحارساً وبين عموم المجتمع بوصفه منتجاً للسلطة، ولا بدَّ على أساس ذلك من التعرّف والإطلاع والتفكير بحرية لتتم عملية الاختيار وإعادة انتاج الواقع والسلطة وأسلوب العيش بحرية وعلى أساس من المعرفة العقليّة المقبولة.
غاية الفلسفة الأساسية تحقيق الوعي بالواقع "وإن اطلاق كلمة وعي مجردة من دون ايضاحها لا يعدو كونه كلاماً فارغاً أو غير مفهوم"؛ ولذا من نافلة القول أن نؤكد أن معنى ايجاد وعي بالواقع هو البحث عن حل للمشكلات من خلال النظر فيها أولاً وتشخيص مكامن دفقها وإيجاد حلول لها، وكذلك عبر تدشين المفاهيم المجرّدة التي تترجم الواقع بلغة الأفكار والقوالب العقلية، وأن هذه العملية ليست بالسهلة لكنها ليست مستحيلة، بل هي من صميم عمل الفلسفة، وهي الاختبار المناط بها والذي عليها (أي الفلسفة) أن تجتازه بجدارة لتثبت أهليتها وإمكانيتها الحقيقيّة والناشطة في التعبير عنه.