لماذا نقد العقل؟

ثقافة 2024/09/23
...

  د. حيدر عبد السادة جودة

انشغل الفكر العربي، الحديث والمعاصر، بإمكانية خلق مشروع يحمل على عاتقه الإجابة عن سؤال النهضة، ذلك السؤال الذي اختزله شكيب أرسلان في عنوانٍ لكتابٍ له أسماه: لماذا تقدم الغرب، وتأخّر العرب المسلمون؟. على أن هذا السؤال، ليس هو بداية الإشكال، فالإشكال قائم منذ أواخر الدولة العثمانيّة، لكنّه أول من طرحه بصورةٍ مركزة ودقيقة.

وقد اختلفت الإجابة عن هذا التساؤل، تبعاً لاختلاف الحركة المكانيّة والزمانيّة للمفكر، فضلا عن السبب الإيديولوجي المحرك لمسار إجابة المفكر المتصدي للإجابة عن سؤال النهضة. 

ولا نريد البحث في إمكان الإجابة عن هذا الإشكال في الفكر العربي الحديث وروّاد النهضة، بل ما نريده هو: معرفة المشاريع الفكرية في المرحلة النقديّة العربيّة المعاصرة، وإسهاماتها في بلورة النتائج وطرحها من أجل التوصل إلى حلٍّ لمثل هذا الإشكال العظيم، ذلك الإشكال الذي ما فتئ مفكرٌ من المفكرين إلّا وكان شغله الشاغل، والذي يتمثل بالتالي: ما الحيلولة وراء دخول العرب في عصر الحداثة؟، أو ما هي العلل التي إذا ما عملنا على استيفائها، أن يدخل عرب اليوم لعصر الازدهار والتقدم الذي يشهده العالم الغربي؟. 

ونتيجة لتلك الإشكاليات، تعددت المشاريع الفكريّة التي انهمك مؤلفوها في بلورة الأهداف التي من أجلها يمكن للفكر العربي المعاصر أن يشهد بزوغ فجر التنوير الذي بدأت شعلته بالتوهّج أبّان الفكر العربي الحديث، والذي نضج مع الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم من المفكرين.

فما انفكّت هذه المشاريع بالظهور على ساحة الفكر المعاصر، وتعددت معالمها تبعاً لتعدد الرؤية المسبقة لحامل المشروع، على أساس أن الكاتب أو المؤلف ليس متحرراً من التراكمات الفكرية والإيديولوجية، وتتبدّى هذه الرؤية أو المتبنّيات في درجة الانتماء إلى تيار معين، أو اختيار منهجٍ محدد، أو حتى إيديولوجيا دينيَّة ومذهبيَّة طائفيَّة.

وما نودُّ طرحه في هذا المقال، هو مناقشة أهم مشروعين في الفكر العربي المعاصر، وأكثرها ألفةً وافتراقاً في آن واحد، وهو مشروع محمد عابد الجابري ونقد العقل العربي، ومحمد أركون ومشروعه الموسوم بنقد العقل الإسلامي.

يعتقد أركون أنّ الضرورة التي تُفرض علينا اليوم هي نقد العقل، وذلك من أجل استكشاف كل ما يتحكّم بنشاط العقل ونتاجه من عوامل متفاعلة وقوى متصارعة وأهواء متضادة وتوترات داخل الذات أو خارجيّة عنها. أما الجابري فقد انطلق في قراءته الابستمولوجية لواقع عصر النهضة، فانتهى إلى أنّهم جميعاً نادوا بـإعداد الفكر القادر على حمل رسالة النهضة وإنجازها.. ولكنهم لم يدركوا أو لم يعوا أنَّ سلاح النقد يجب أن يسبقه ويرافقه نقد السلاح، لقد أغفلوا نقد العقل. ومن ثمَّ فإنَّ نقد العقل جزء أساسي وأولي من كلِّ مشروع للنهضة.

أخذ أركون على الجابري بأنَّ الأخير قد تحاشى استخدام مفهوم "نقد العقل الإسلامي" واستبدله بـ "نقد العقل العربي" لكي يريح نفسه ويتجنّب المشكلات والمسؤوليات.. ومن ثمَّ، فإنّ المشكلة المطروحة علينا اليوم وغداً هي مشكلة نقد العقل الإسلامي لأنَّ العقل العربي نفسه هو عقل ديني، أو قُل لم يتجاوز بعد المرحلة الدينيَّة من الوجود. أما الجابري، فيبرّر استعماله للعقل العربي في قوله: أنا أعتقد أنَّ أي شيء يوصف بأنّه (إسلامي) إلا ويحيل مباشرة إلى الإسلام كدين، وأنا لم يكن هدفي هو البحث في شيء اسمه (العقل الديني أو الإسلامي)، هناك ما يعرف بـ (الإسلام كحضارة")، أو (المعنى الحضاري لكلمة إسلام)، وهذا توصيف استشراقي... والذين يلاحظون عليَّ تجنّب عبارة (العقل الإسلامي) هم واقعون تــحــت تأثير هذا الفهم الاستشراقي للإسلام".

 ونحن نتفق مع استخدام العقل الإسلامي بدلاً من العقل العربي، لأنّه كما يقول الآلوسي، من المكابرة أن يقال إن العقل العربي شقَّ طريقه بنفسه غير متأثّر بالدين أو بالنص الديني. ومن ثمّ فكيف يمكن أن تنتقد العقل العربي من دون أن تنقد العقل الديني؟!. فنقد العقل اللاهوتي القروسطي المسيطر علينا منذ مئات السنين يشكل المهمة الكبرى للثقافة العربيّة بمجملها. ومن دون القيام بهذا العمل فلا تحرير ولا خلاص. مع ذلك يقول أركون: هذا لا يعني أن الجابري لم يعمل شيئاً، فمحاولته مفيدة من دون شك، وهي من أهم المحاولات الموجودة في الساحة العربيّة، ولكنّها لا تكفي ولا تشفي الغليل، ينبغي تجاوزها إلى ما هو أعمق منها وأبعد. على أنّ أركون لا يعني بالعقل الإسلامي عقلاً خصوصيّاً، مميّزاً أو قابلاً للفرز والتمييز لدى المسلمين عن غيرهم. وينبغي العلم بأنَّ العقل البشري ليس إسلاميّاً ولا مسيحيّاً ولا كاثوليكيّاً ولا يهوديّاً، العقل البشري واحد في المطلق، ولكن ما يقصده أركون بالعقل الإسلامي، يتمثل في الكيفيّة التي ينظر فيها الإسلام إلى العقل، وكيف يستخدمه، فمثلاً العقل نفسه يمكن أن يستخدم للقيام بقراءة مختلفة من نصٍّ تأسيسيٍّ إلى آخر، وهذه القراءة تعطي نتائج مختلفة. ومن ثمَّ فهو ملكة مشتركة لدى كل البشر، وإن التمييز أو الفرق كامن في النعت: أي إسلامي.

أما الجابري، فيقصد بالعقل العربي: أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربيّة بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبليّة كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.

ويفرق الجابري ما بين العقل المكوِّن الفاعل، والعقل المكوَّن السائد، وهي تفرقة مستلفة من لالاند، يقصد بالأول: النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، أما العقل المكوَّن، فهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. وحين يتبنّى الجابري هذا التمييز، يقول: إنَّ ما نقصده بالعقل العربي هو العقل المكوَّن، أي جملة القواعد التي تقدمها الثقافة العربيّة للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، والتي تفرضها عليهم كنظام معرفي. أما العقل المكوِّن، فسيكون هو تلك الخاصيّة التي تميّز الإنسان عن الحيوان، أي القوة الناطقة باصطلاح القدماء.

أما محمد أركون، فيفرّق ما بين العقل الدوغمائي المنغلق، والعقل الاستطلاعي المنبثق. أما العقل الدوغمائي فلا يعتبره أركون من الظواهر الخاصة بتاريخ الفكر الإسلامي، بل هو قوة بنيويّة تكوينيّة. وهو العقل الذي أغلق ما كان مفتوحاً منفتحاً. وحوّل ما كان يمكن التفكير فيه إلى ما لا يمكن التفكير فيه. ويعزو أركون هذا العقل إلى نزعة التقليد للمذاهب الأرثوذوكسية. أما العقل الآخر، وهو العقل الاستطلاعي أو المنبثق فيقصد به العقل الجديد الذي يطمح إلى التعرّف على ما منع التفكير به وأقصي عن دائرة الاستطلاع والاكتشاف، ويلحُّ هذا العقل على ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يفكر به بعد. ويكافح هذا العقل على جميع الجبهات؛ وإنّه لا ينحاز للغرب أو للشرق، إلى الدين أو الدنيا. ويعتمد هذا العقل على نظريّة التنازع بين التأويلات، بدلاً من الدفاع عن طريقة واحدة في التأويل.

في الختام لنا أن نقول، إنَّ أهميّة هذين المفكرين تعود إلى أنّهما اشتغلا على مفهوم العقل، وتكمن أهمية الاشتغال على العقل في أنه يشتمل على فهمٍ عام، أي أنّه يشتغل على جميع ما يفرزه ويؤسسه، من هنا نفهم شموليّة المشروعين. إلّا أنَّ الجابري يعمل على منطقة العقل العربي، في حين يشتغل أركون على منطقة العقل الإسلامي، ولا يمكن إطلاق سمة الأفضليّة لمشروعٍ على مشروع، فلكلِّ واحد منهم أدواته الخاصة ومناهجه المتبعة في تحصيل النتائج.

فقد آمن أركون بالعقل الإسلامي، كونه يتيح لنا التعامل مع إشكاليات أكثر، ومن ثمَّ فإنَّ المشكلة العويصة التي يُراد منّا حلها، تتمثل في إشكاليّة العقل الإسلامي وليس العربي فقط، أما الجابري، فقد استخدم العقل العربي، كونه قد أوضح بأن الاشتغال بالمعنى الإسلامي لا يُحيل إلا إلى الدين، ولم يكن هذا ما يريده الجابري، على أن الجابري لم يخرج من منطقة الاشتغال الإسلامي، ولكنه أراد أن يُبين القواعد التي تأسس عليها هذا العقل، وما أثر عليه الإسلام، بالوقت الذي أصرَّ في أركون على ضرورة التعرّج إلى لحظة الإسلام الأولى، وهي اللحظة المتمثلة بالوحي.

ومن ثمَّ لا يمكن الفصل في الغاية التي يريد المفكران تأسيسها، فكلاهما يحاول أن يخترق بنية العقل، سواء كان هذا العقل عربيّاً، كما هو الحال مع الجابري، أو كان إسلاميّاً، كما تعامل معه أركون. على أن البنية تختلف لاختلاف النعتين، فالبنية العربيّة، هي بنية تشكلت ضمن محددات ثلاثة، مرحلة البيان أو التدوين، ومرحلة العرفان الغنوص، والمرحلة البرهانيَّة، والتي تمثل ازدهار العقل العربي. أما محددات العقل الإسلامي، فكما قلنا، يصرُّ أركون على الرجوع إلى لحظة الإسلام الأولى، لذلك اختار المحدد الأول لتلك البنية متمثلاً بالقرآن الكريم ونزول الوحي، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الازدهار الكلاسيكيّة، ومن ثمَّ المرحلة السكولائيَّة، لينتهي إلى واقع النهضة في القرن التاسع عشر.