ناصر عمران
يعتبر التشريع من أبرز مظاهر مدنية الدولة، ومما لا شك فيه أن وضع القوانين من المهمات الخطيرة في حياة الشعوب، فهي المؤشر الحقيقي لتقدمها وتطورها، ولأهمية صناعة القوانين، يعكف المشرعون على بناء القوانين بخطوات مُتئدة وأسس صحيحة، حتى تكون هذه القوانين قويمة وقادرة على الديمومة وتنظيم الحياة بشكل أفضل وتلامس روح المدنية والتطور وتكون قريبة من المواطن، وحين نتحدث عن التأصيل التاريخي لهيئة الإشراف القضائي وهي أحد المكونات الاساسية داخل السلطة القضائية، والتي نص عليها الدستور في المادة (89) منه والتي يقع على عاتقها مهمة الرقابة والاشراف على حسن الاداء في المحاكم، عدا محكمة التمييز الاتحادية والمحكمة الاتحادية العليا والرقابة والاشراف على حسن الأداء في جهاز الادعاء العام والرقابة على حسن قيام القضاة وأعضاء الادعاء العام بمهامهم القضائية والإدارية وتقييم كفاءتهم والتحقيق في الوقائع المنسوبة اليهم، والتي تُشكل مخالفة لقواعد السلوك القضائي باعتبارها جهة إشرافيَّة رقابية، فإن كل تلك الصلاحيات المهمة تستدعي الخوض في التجذر التاريخي للبنية التنظيمية للهيئة، لا سيما وانه لا يمكن الفصل بين التطور التاريخي للنظم القضائية عن التأسيس الاول للدولة العراقية وتحقق الوجود القانوني والدستوري لها، ومثلما لا يمكن الفصل بين تطور نشوء الدولة والهيئات القضائية لا يمكننا الحديث عن التجذر التاريخي لهيئة الاشراف القضائي دون المرور بمراحل التطور القضائي في العراق، ومن خلال ذلك يمكننا التأصيل التاريخي لهيئة الاشراف القضائي، حيث يبدأ التجذر التشريعي لهذه الهيئة من بيان (تشكيل المحاكم) رقم (6) لسنة 1917 والذي ورد في أحد أجزائه الإشارة الأولى لعمل هيئة الاشراف القضائي، حيث جاء عنوان قسم من اقسام البيان بالآتي: ( تفتيش نظامات المحاكم) والذي أناط مهمة (الإشراف) على جميع المحاكم المدنية والشرعية والرقابة إلى وزير العدلية، في حين كانت لمحكمة التمييز الرقابة العامة... ولأهمية التفتيش في عمل وزارة العدلية فقد تم تنظيمه بشكل جديد في عام 1930 وتحت تشكيل (دائرة التفتيش للأمور العدلية) في وزارة العدلية، ثم توالى العمل بهذا التشكيل حتى اصدار تعليمات التفتيش العدلي رقم (1 ) لسنة 1948 والحقيقة انه وبعد تشكيل دائرة تفتيش الأمور العدلية وصدور تعليمات التفتيش العدلي اخذ يتضح ويتبلور عمل التفتيش العدلي، باعتباره عملاً رقابياً في وزارة العدلية حيث شُكل بموجب هذه التعليمات هيئات تفتيش في ديوان وزارة العدل قوامها (ثلاثة مفتشين ) يتم اختيارهم من بين حكام درجات الصنف الاول أو الدرجة الاولى من الصنف الثاني، وعلى ضوء ذلك تم تقسيم العراق إلى أربع مناطق، وبعد مرحلة ليست بالقليلة من العمل تم صدور تعليمات ( التفتيش العدلي ) رقم (34 ) لسنة 1953 وقد تضمنت بشكل واضح: توجيه المفتشين بملاحظة العمل القضائي من خلال احصائية عدد الدعاوى المقامة وما تم حسمها خلال سنة واسباب عدم الانجاز ورسمت هذه التعليمات كيفية تفتيش اجهزة وزارة العدل والتحقق من مخالفات الحكام والموظفين. وفي هذه المرحلة خطا التفتيش العدلي خطوات مهمة وفاعلة في العمل الرقابي، فبعد صدور قانون الخدمة القضائية رقم (58) لسنة 1956 والذي اعلن انتهاء العمل بقانون الخدمة القضائية رقم (27 ) لسنة 1945 بعد مرور اكثر من احد عشر عاما على تطبيقه، صدر القانون الجديد والذي بموجبه تشكلت (هيئة التفتيش العدلي ) لتأخذ على عاتقها مهمة التفتيش والرقابة على اداء القضاء والحكام في المحاكم وأهم ما جاء به هذا القانون هو تأليف لجنة الحكام والقضاء وجاءت تحت مسمى ( لجنة امور الحكام والقضاة ) حيث اصبح رئيس هيئة التفتيش العدلي إلى جانب نائب رئيس محكمة التمييز عضوا فيها وضمت بعضويتها ايضا احد كبار الحكام واحد كبار الموظفين في وزارة العدل يعينه الوزير، ويتم تشكيلها في بداية كل سنة وعند انعقادها ونظرها أمرا من أمور الحكام، يدخل رئيسا مجلس التمييز الشرعي في اللجنة كعضوين اضافيين، وفي عام 1960 صدر أول قانون (للتفتيش العدلي) تضمن تأليف (هيئة التفتيش العدلي) في وزارة العدل من رئيس وعدد من المفتشين، لا يزيد عددهم عن (تسعة)، ويكون مرجعهم وزير العدل. وبعدها صدر قانون هيئة التفتيش العدلي رقم (115 ) لسنة 1966 والذي ألغى القانون السابق، ونتيجةً لتطور العمل القضائي ولضمان تحقيق العدالة في المحاكم واجهزة العدل الاخرى بما ينسجم مع مواكبة التطورات ووجود رقابة واعية، صارت الحاجة ملحة لصدور تشريع جديد حسب ما جاء في الاسباب الموجبة لصدور قانون الاشراف العدلي رقم (124) لسنة 1979، والذي نظم تشكيل الهيئة والتي تتكون من: (رئيس ونائبي لرئيس وعدد كاف من المشرفين العدليين)، وبالنظر لمرور فترة زمنية ليست بالقصيرة وحصول تغييرات هيكلية في بنية السلطة القضائية والعمل القضائي اهمها استقلالية السلطة القضائية عن وزارة العدل وبخاصة بعد صدور قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالي، ثم دستور جمهورية العراق لعام 2005 الدائم و لاختلاف الرؤية والفلسفة في نظام الحكم بعد التحولات الدستورية والقانونية في العراق والتي أسست للنظام الديمقراطي، فقد تمَّ تغيير التسمية من (هيئة الاشراف العدلي إلى هيئة الإشراف القضائي والتي هي احد مكونات السلطة القضائية حسب المادة (89) من الدستور العراقي، ليتم بعد ذلك صدور قانون هيئة الاشراف القضائي رقم 29 لسنة 2016 النافذ والذي بموجبه نظمت الهيئة عملها برؤى وفلسفة جديدة، تنسجم مع النظام الديمقراطي ودستور جمهورية العراق لعام 2005 والذي اعتبر استقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات مرتكزات مهمة في النظام القانوني الجديد وبعد صدور قانون مجلس القضاء الاعلى رقم 45 لسنة 2017 والذي نظم تشكيل مجلس القضاء الاعلى نص على أن رئيس هيئة الاشراف القضائي عضوا في مجلس القضاء الاعلى. واليوم تمارس هيئة الاشراف القضائي دورا محورياً في تقويم وتقييم العمل القضائي، من خلال اشرافها ومتابعاتها الدؤوبة لأداء العمل القضائي داخل المحاكم، وجهاز الادعاء العام والسلوك المهني والوظيفي للقضاة، وأعضاء الإدعاء العام، ومنتسبي مجلس القضاء الاعلى ولعل صدور مدونة السلوك القضائي، التي اقرها مجلس القضاء الاعلى (بالأجماع ) في جلسته السادسة المؤرخة 26/6/ 2022 والتي كان لهيئة الاشراف القضائي دور في إعدادها والتصويت عليها، لتضاف إلى مدونات العمل التنظيمي لهيئة الاشراف القضائي معايير تقويم مهنية حيث تم اطلاع السادة القضاة واعضاء الادعاء العام على ما ورد فيها والالتزام بالنسق الانضباطي المهني، الذي احتوته المدونة مع رؤيتها الواضحة بالتزامات العمل المهني، الذي ديدنه المحافظة على هيبة وكرامة القضاء.
قاض ومشرف قضائي