علاء بشير بين الوجود والعدم

ثقافة 2024/09/24
...

  عدنان حسين أحمد

احتضنت صالة «أم پي بيرلا ميلينيوم گاليري” التابعة للمركز الهندي في ويست كِنزنكتن بلندن معرضًا جديدًا للفنان علاء بشير للمدة من 13 - 18 سبتمبر 2024م. وقد ضمّ المعرض خمس لوحات كبيرة الحجم تحتاج إلى فضاءآت واسعة كي توفّر للمتلقي الإحاطة بشكل اللوحة ومضمونها من دون التفريط ببعض تفاصيلها الموزّعة في الطول والعَرض والعمق المنظور على وجه الدقة.
لا يجد المتتبع الدؤوب لتجربة الفنان الدكتور علاء بشير صعوبة تُذكر  في متابعة مبنى اللوحة ومعناها فهي تتمترس وراء مفردات رمزية، إن صحّ التعبير، فهو مُولع بالغُراب ومتشبّت به منذ عقود طويلة، أكثر من أي طائر آخر ، وقد حضر الغُراب في ثلاث لوحات سنأتي عليها تباعًا. أما الموضوعات الأخرى الأثيرة لدى بشير فهي تتوزع بين القصص والأساطير المُستوحاة من الديانات السماوية الثلاث التي اطّلع عليها الفنان في مراحل مختلفة من حياته وتمثّلها جيدًا وآمن بها ليجعلها في خاتمة المطاف جزءًا لا يتجزأ من مشروعه الإبداعي الذي انطلقت تباشيره منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي.
لا يمكن للمتلقي العادي أن يفهم مضامين أعمال بشير ما لم يتسلّح بمعرفة بعض القصص والحكايات والأساطير التي تشكّل المتن الفني لكل عمل على انفراد, وإلّا سوف يظل متفرجًا على المظهر الخارجي من دون أن يلجهُ من أبواب المعنى العميق الذي تستند إليه سردية العمل وتفعِّل آلية اشتغاله وتوضِّح رموزه المُستغلقة إذا ما توفّرت المفاتيح الصحيحة لأقفال السردية الحكائية والبصرية في آنٍ معًا.
تنطوي أسماء اللوحات الخمس على إشكالية تُثير الجدل فقد أرادها الفنان أن تظل هلامية رجراجة لا تستقر على معانٍ ثابتة فلوحة “آدم وحوّاء” المُنفَّذة بالزيت على الكانفاس أردفها بكلمة “الهبوط أو  النزول” الاختياري بينما تشتمل القصة أو الأسطورة على فعل العِقاب أو الطرد القسري، ولو تأملنا آدم وحوّاء اللذين يتوسطان هذا العمل لوجدناهما يتشبثان بأشجار الجنة المقلوبة قبل سقوطهما على الأرض التي تتوسط الأكوان والمجرّات الأخرى. وقد منح آدم اللون الأسود فيما خصّ حوّاء باللون الأبيض على وفق مخيلته المجنّحة التي حصرت كل الألوان الأخرى بين اللونين آنفيّ الذكر. فهو يرسم أعماله من دون مخططات مُسبقة وينفّذ العمل الفني كما يظهر على شاشة ذهنة أو مخيلته التصويرية التي تُقارب أحلام اليقظة والمنام.
تتضمّن لوحة «تحوّل» أو «انتقال» عشرين غُرابًا وهم جميعًا شهود على أول جريمة في العالم حينما أقدمَ قابيل على قتل أخيه هابيل ووارى سوْأته عندما شاهد بأم عينية غُرابًا يقتل غُرابًا آخر ثم أخذ يحفر الأرض بمنقاره ومخالب قدميه ويدفنه كي لا تأكله الكواسر والطيور الجارحة. جاء في الآية الكريمة من سورة (المائدة)». . . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ  فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين”  .يعتقد بشير أنّ الله “جلّ في علاه” قد كرّم هذا الطير الذكي وجعله أنموذجًا يُقتدى به، وهو الشاهد الوحيد على الجريمة الأولى التي ارتكبها رجل وليس امرأة على وجه البسيطة فلا غرابة أن يمجّد الفنان هذا الطائر الحاذق على الرغم من تشاؤم العرب من شكله وصوته والمحمولات الخرافية التي اجترحتها المخيلة المريضة التي قد تعتمد على الأوهام والأخاليط التي ترسم نمطية متطرفة لا علاقة لها بالواقع الحقيقي.
يتكرر مشهد الغُراب في اللوحة الثالثة التي تحمل اسم «تحوّل 2» ويظهر أسفله منظر الإنسان الذي يُعذّبه ضميره فنراه يعاني من قسوة الآلام وعذاباتها المتواصلة حيث يبدو تأنيب الضمير أشدّ مرارة من العذاب الذي يسبّبه الغُراب للمجرم الأول. تتميز هذه اللوحة مثل الأربع الباقيات بالجرأة اللونية التي يهيمن عليها الأحمر؛ رمز الدم والجريمة والجحيم وما إلى ذلك.
لا تحتاج لوحة «رحلة الحياة» إلى جهد كبير في التأويل فالأيدي السبعة تريد أن تتلقف كل شيء في اللحظة الأولى التي تخرج من رحم الأم لتلج الحياة ولكنها سرعان ما تُغادر إلى الطرف الآخر من الحياة ولا نرى منها سوى السبعة أقدام وهي تغادر إلى رحم الموت. أمّا الحياة البشرية القصيرة فقد اختصرها الفنان باللون الأبيض الذي تتخلله لمسات رمادية واضحة للعيان.
أمّا اللوحة الخامسة والأخيرة فقد أسماها الفنان بـ «تطهير» وتحتفي بوجود الضمير الذي ظهر في ثلاثة مواضع وهو ينظّف الجسد البشري المسجى على دكّة الموت، وثمة طيّة كبيرة تحيط بهذا العالم الذي نعيش بطرقه المتعددة التي تتقاطع إتجاهاتها بينما يعلوها الجحيم المتقد بلونه الأحمر. تتفرّد هذه اللوحة بوجود السلحفاة بوصفها كائنًا بسيطًا لكنها تتمترس وراء قبة مدّرعة توفر لها حياة آمنة في العالم المروّع الذي تعيش فيه. لقد تناولنا اللوحات الخمس بحسب تسلسلها الزمني الذي يبدأ بـ 2017 وينتهي بـ 2021 وليس بحسب التسلسل الذي رأيناه في
 المعرض.
كثيرون يتساءلون عن دلالة عنوان المعرض وسبب اختياره، فما هو معنى «المُساومة القاسية»؟ ولماذا اختار هذا العنوان بالتحديد؟:  يقول بشير في دليل المعرض: طالما لا يوجد تعريف متفق عليه لـ “ما يعنيه أن تكون إنسانًا”، فلا يمكن أيضًا أن يكون هناك تعريف مُتفَق عليه لـ “الفن”، لذا تبقى حدود علاقة الإنسان والفن مثل علاقة الحياة بالموت، والليل بالنهار، والمرأة بالرجل، والحب بالكراهية، والمعنى باللامعنى”. ويضيف بأنّ لوحات المعرض الخمس هي “محاولة للتعبير عن هذه المساومة” التي يراها الفنان قاسية جدًا.