النقد الثقافي ليس كبحر الرجز

ثقافة 2024/09/24
...

    د.عبد العظيم السلطاني

تهيَّأت ظروف حضاريّة وضرورات ثقافيّة وتصورات نقديّة، أفضت مجتمعة إلى ولادة النقد الثقافي. ثمَّ خضع هذا النقد لقانون التطوّر والارتقاء، شأنه شأن أيّ كائن آخر. واكتسب اسماً وكينونة ومسيرة تاريخيّة. والنقد الثقافي في رحلته تجاذبته اتجاهات وتدخّلت في حياته إرادات. فأراد له البعض أن يكون بديلا عن النقد الأدبي، ولم يفلحوا. وأراد له بعض آخر الفناء، فهاجموه وسعوا للقضاء عليه، ولم يفلحوا، أيضا. وظلّ حاضرا وأثبت وجوده، وقدّم أدلّته التي تبرهن على صلاحيته وفائدته لحركة الحياة، ومنجزاتها الجماليّة التي تشتغل فيها الثقافة. فكان حاضرا في فحص النصوص الأدبيّة وما تغلغل فيها من أنساق، فكان النقد الثقافي في مجال الأدب. ومثلما حضر في درس الأدب حضر في مجالات ثقافيّة أخرى.
وأراد له البعض الاستقلال وأن لا يتصل بالنقد الفني الجمالي، فلم يطاوعهم كثيراً. لأنّ تلك المطاوعة ستُظهره ناشزاً وعاجزاً عن سدّ ثغرات كان يعالجها النقد الفني الجمالي. وأتخيّل حال النقد الثقافي، بعد أن اكتسب مسوّغات وجوده وصارت لديه ذخيرته المفاهيميّة والمنهجيّة، واستشعَرَ مأزقه وما أصابه من تشويه لصورته؛ أتخيّله يرفع صوته اليوم قائلا: "أرجوكم لا تفهموني غلط"، وبعض تصوراتكم عنّي ليست سوى تصوراتكم، ولا تمتّ لطبيعتي بصلة. فلستُ بديلاً عن النقد الفني الجمالي، بل رفيقه. جئت لأسدَّ فجوات لم يعمل رفيقي الأقدم عمراً على ردمها، وأُجيب عن أسئلة لم يكن قادراً على الإجابة عنها. فهو مستعين بي حين أفتّش عن الأنساق المخفيّة المضمرة التي يحملها الخطاب الأدبي أو الأنساق المحرِّكة التي حرّكت الخطاب. ويضيف إلى قوله: وأنا مستعين بخبراته في فهم الأدب وبمناهجه وإجراءاته في تحليل النصوص. ليس عدوّي ولستُ عدوّه، وكلانا نعمل في الحقل نفسه، نحرثُ في النص الأدبي، ويمكن أن ننسّق جهودنا النقديّة لنخرج بأفضل حصيلة ممكنة، في معالجة النص وتحليله. وأنا بعض من النقد الحديث، ولم أقل بأنّي كلّه. ويضيف، أيضا: كنت أأمل منكم أن توقّروا مكاني مثلما توقّرون مكان النقد الجمالي، وكنت أأمل منكم حين تسمعون مصطلح "النقد الحديث" أن تتصوروا أنّه يطير بجناحين ولا يقتصر على أحدهما. جناحه الأول النقد الجمالي الفني وجناحه الثاني أنا النقد الثقافي. وكيف لكم تجاهل حقيقة أنّ الثقافي يمكن أن يكون بعضه متغلغلا في الجمالي؟ والبعد الجمالي نفسه تحدّدت معالمه وقيمه تحديدا ثقافيا، وما يجده مجتمع جميلا قد يجده مجتمع آخر منعدم الجمال أو قليله!.
الواقع الأكاديمي لدينا أحد ينابيع المشكلة، ففي خضم التفتيش عن موضوعات للبحث، هجم البعض على النقد الثقافي مستسهلين أمر الخوض فيه، جهلاً بحقيقته. وكأنّه صار لدى هؤلاء كبحر الرجز في الشعر العربي، يمتطيه كل من لديه أدنى قدرة على نظم الشعر، حتى سُمّي مطيّة الشعراء.
وأجد أبحاثاً كثيرة، يخلط فيها الباحثون بين الأنساق الثقافيّة والمضامين الثقافية في النصوص الأدبيّة، حين يجدونها متكررة الحضور في أدب أديب معَيَّن، أو أدب عصر من العصور. وهم بهذا إنّما يرحّلون اهتمام النقد الأدبي التقليدي إلى اهتمامات النقد الثقافي. وشتان ما بين الاهتمامين. فالنقد الثقافي قائم على فكرة التفتيش عن الأنساق الثقافيّة المضمرة، وليس الموضوعات المرصوفة في النص رصفا نسقيا! وينقد وفقاً لرؤية ثقافية معيّنة، وقائم على "منهجية" تقتضي الإلمام بالمناهج النقديّة، ولديه ما يكفي من خبرة في فهم نسيج النصوص الأدبيّة وأدغالها التي زرعتها الانزياحات، فالأنساق الثقافية تراوغ الناقد، ومَن لم يكن مؤهّلا قد يضيع في الأدغال من دون أن يعثر على تلك الأنساق الثقافيّة المختبئة.
قَدَرُ النقد الثقافي أن يكون مرناً واسعاً، لأنّه مرتبط بما تُنتجه الثقافة. والثقافة بطبيعتها مرنة ومتغلغلة في كل مناحي الحياة. وهذا التغلغل وتلك المرونة صارتا وبالاً على النقد الثقافي، حتى ظنّ كثير من الناس أنّه توصيف للمضامين الثقافية التي يحملها الأدب- لا سيّما الشعر- فهجموا عليه ليكون عنوانا لكمّ كبير من الأبحاث. وصار عنوانا جاهزا يُلصق بشعر هذا الشاعر أو ذاك، سواء أكان ذلك الشعر محض جماليات يصوغها الشاعر، أم كان- فعلا- متضمّنا لعروق أنساق ثقافيّة مهمّة قارة في بنيته. وسواء أكان ذلك الشعر حافلاً بموقف ثقافي في هذا الموضوع أم لا. وبعض أطراف المشكلة أن يكون الباحث ليس عارفاً بأيّ مستوى من المعرفة بحيثيّات النقد الثقافي، ويظلّ هائماً يتسقّط الأخبار من هذا وذاك.  
نعم، النقد الثقافي قد يذهب به الباحث الناقد ليجيب عن سؤال معيّن في نص أدبي، حين لا تكون غايته التحليل الشامل لكل تفاصيل النص الثقافيّة والفنيّة الجماليّة. لا بأس بهذا ولا مشكلة فيه، طالما كان الهدف واضحاً. المشكلة تظهر حين لا يدرك الباحث أن سؤال بحثه استدعى هذا، ولا يُدرك أنّ النقد الثقافي ليس بديلاً عن النقد الأدبي، وأن هذا النص يمكن أن يُدرس من زوايا أخرى، فنيّة جماليّة. ولا يُدرك أنّ لا غنى له عن عدّة النقد الأدبي الفني الجمالي، ولا بدَّ أن تحضر في التحليل والبحث. ولا شكَّ في أنّها كانت حاضرة قبل بدء البحث، ومن خلالها أُختير هذا المتن الأدبي من دون غيره. ومن يشتغل في النقد الثقافي لا يُجرّد من مستلزمات القدرة على تشخيص "الأدبيَّة" في النصوص. ومن لا قدرة له على التمييز بين الأدب وغيره لا يصلح للبحث في الأدب، لا في مجال النقد الثقافي ولا غيره.
مسكين النقد الثقافي حين يُدفع إلى زاوية يبدو معها في نظر القرّاء وقد تشوّهت صورته، حتى بدا لهم وكأنّه أعمى غير قادر على التمييز بين نص أدبي استوفى شروطه الفنيّة والجماليّة، ونص آخر ليس سوى نص لغوي تضمّن فكرة وشيئاً قليلاً من الفن، لا يؤهّله أن يُسمى أدباً.